البعد التاريخي لظاهرة الهيمنة

الهيمنة ظاهرة قديمة، مرتبطة أساسا بالتاريخ البشري والتطورات التي عرفتها المجتمعات وسر تمكنها في إرساء دعائم المدنيات، فالمدنيات تمر بأطر مختلفة متجددة تتسم بأنها ذات أعمار شبيهة بالأعمار البشرية انطلاقا من الظهور وإرساء الأركان إلى أن تأتي عليها دهر الأفول والانتكاس، وهكذا خلال هذه المسيرة تبرز الظاهرة محل الدراسة والبحث، وفي هذه المراحل فإن أقرب معنى اصطلاح الهيمنة يتمثل في التوسع الاستعماري وذلك باستخدام القوة والنفوذ فالوزن النسبي للأمم يقاس بمدى قوتها ونفوذها، ومن ثمة اعتبر الغزو والتوسع هدفا نبيلا ومقدسا، يستند إلى جملة من الذرائع من أهمها الذريعة الاقتصَادية وفي هذا السياق نذكر التجارة الفينيقية وسبل تأمينها وكذلك الهيمنة اليونانية وهلم جرا من الأحداث والوقائع التي تعكس الظاهرة محل البحث.


مما سبق، نعمل في هذا الفصل على مسح المراحل التاريخية الهامة التي سبقت مرحلة انفصال العلوم الاقتصادية عن فلسفة العلوم، كما اتسمت بالفكر المذهبي الذي اجتهد في تفسير الوقائع الاقتصادية كإطار رئيسي لتحديد معالم النظام الاقتصادي العالمي عبر العصور التاريخية -ولقد استخدمنا مفهوم النظام اقتصادي العالمي وذلك لأن المعاملات الاقتصادية في السابق كانت تتم على نطاق واسع، أي على نطاق الشعوب -هذا من جهة، وفي غياب تدخل الدولة وهذا لأسباب أخرى سنأتي على ذكرها في أوانها من جهة، ومن هنا تبرز أهمية هذا الفصل في رسم النظرة الجديدة لمفهوم الهيمنة غاية البحث محل الدراسة، ومن أجل بلوغ ذلك فإننا نعتمد في دراستنا على المنهج الوصفي والتاريخي وذلك بهدف الإجابة على التساؤلات التالية:

1- ما هي يمكن اعتبارها نفس المؤشرات المتحصلة عليها بالنسبة للنظام السائد عبر العصور القديمة؟
2- هل يمكن اعتبارها نفس المؤشرات المتحصل عليها بالنسبة للنظام الاقتصادي العالمي السائد في العصور الوسطى، وإذا كانت متمايزة فما هي خلفيات هذا التمايز؟
3- إذا علمنا أن اكتشاف أمريكا والبحث عن طريق الهند مع بداية التاريخ الحديث، فما هي عندئذ معالم النظام الاقتصادي العالمي وما هي أهم المؤشرات التي يجب استخلاصها والتي يمكن اعتبارها وليدة هذا العصر.

عن الإجابة عن الأسئلة السابقة وغيرها من الأسئلة التي قد تطرح نفسها في هذا الموضوع ستبرز لنا وبطريقة منطقية أن المدنيات التي عرفتها المجتمعات البشرية تمتاز بأعمار شبيهة بالأعمار البشرية حيث تمتعت بسنوات الرخاء وأخرى للبؤس والشقاء، وهكذا فإن سردنا لهذه الوقائع سنؤكد من خلالها بأن التاريخ متكرر يكدس فيه حشد من الظواهر المادية، والظواهر الاجتماعية التي تخضع لقوانين لها من الثبات ما يكفي لأن تسبب حوادث اجتماعية تتبع أنماطا وأساليب منتظمة واضحة، بالرغم من أن الثبات ما يكفي لأن تسبب حوادث اجتماعية تتبع أنماطا وأساليب منتظمة واضحة، بالرغم من أنها ليست مطلقة لا للقوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية (صديقي 1980: 146)، ومن ثمة يترجم التاريخ الصراع البشري الذي تتخبط فيه الطبقات الاجتماعية المتناحرة، فقد وقفت هذه الطبقات موقف المعارضة الدائمة وعادة ما ينتهي هذه الصراع بإعادة بناء المجتمع كليا بشكل جذري وثوري، من خلال تدمير الطبقات المتصارعة لبعضها البعض وعليه يسمح هذا الفصل ببناء تصور لتطير النظام الاقتصادي العالمي والآليات التي سايرت مختلف الأنظمة عبر مختلف العصور وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات المطروحة؛ ومن أجل بلوغ هذه الغاية قسمنا هذا الفصل على النحو التالي:

المبحث الأول: الهيمنة من خلال النظام الاقتصادي العالمي للعصور القديمة.
المبحث الثاني: الهيمنة من خلال النظام الاقتصادي العالمي للعصور الوسطى
المبحث الثالث: الهيمنة من خلال النظام الاقتصادي العالمي للعصر الحديث.
الخاتمة: استنتاجات عامة

سيتم التعرض إلى وقائع التاريخ المعاصر من خلال عرض أطروحات التجارة الدولية ونظرية مفعول الهيمنة من خلال استراتيجية المشروعات المتعددة الجنسيات وكذلك الصندوق النقدي الدولي، وذلك بدءا بالمدرسة الكلاسيكية لكونها تمثل المنطلق الحقيقي لانفصال علم الاقتصاد السياسي عن فلسفة العلوم من جهة، ولاعتبارها المنطلق للتاريخ المعاصر، ومن ثمة حاولنا تفادي التكرار، لأن التاريخ المعاصر يأخذ حصة الأسد من البحث محل الدراسة، وفي هذا السياق يعتبر المؤرخون مرحلة ما قبل التاريخ مرحلة طويلة مقارنة بالمراحل التي تليها لكونها تعد القاعدة المتينة التي هيأت سبل المدنية والتقدم للعصور اللاحقة.

وفي هذا المجال نذكر جملة من الأمثلة منها بناء القرى والمدن ناهيك عن امتهان بعض الصناعات التي تبرز خصوصيات هذا العصر، ومن ثمة فإنه لا يمكن تجاهله أو إهماله في سيرورة التاريخ، ولقد قسم المؤرخون التاريخ إلى عصور أربعة وهي: (الخوري 1966: 5) العصور السالفة الذكر، أين تبدأ العصور القديمة ببدء التاريخ وتنتهي بإنهزام البيزنطيين أمام العثمانيين سنة 1453 وهذا يعد بداية العصور الحديث الذي يمتد إلى غاية قيام الثورة الفرنسية سنة 1789، وهو التاريخ الذي اعتبر بداية العصر الحديث الذي يستمر إلى يومنا هذا.

الهيمنة من خلال النظام الاقتصادي العالمي للعصور القديمة

مقدمة:
يستخدم المؤرخون مصطلح الحضارة للتعبير عن التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، لكن يعد مفهوم الحضارة أوسع من ذلك إذ يشمل بالإضافة إلى ما سبق الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية لحياة الأمم، وهكذا فهناك من يراها على أنها تلك المكتسبات المادية ومنهم من يراها القيم الخلقية، ومنهم من يعتقد بأنها مجموع الأمرين، إلا أن الحضارة ثمرة من ثمرات الفكر، والفكر ملازم للإنسان منذ أن استودع الأرض، وتعرف الحضارة لغة (المحيط ج2: 119) على أنها الإقامة في الحضر وهذا يوافق الشرح الذي تضمنه لسان العرب، فأصل المعنى يتمثل في الاستقرار الذي تولد منه الحضارة لأن الاستقرار في أرض يجعل المستقر بها يستغل ثرواتها الباطنية والظاهرية بينما المعنى الاصطلاحي، فإن الحضارة أمر طبيعي في حياة الأجيال المختلفة وهذا ما اعتقد بع ابن خلدون فكان له قصب السبق في ذلك من خلال تأسيس علم العمران البشري ويعني بذلك التفنن في وسائل العيش فإذا بلغ ذلك مرحلة الترف والخروج عن سنن الله فإن ذلك يعد مؤشرا على اضمحلال الحضارة ولا سيما إذا فقدت القيم الخلفية (ابن خلدون 1989: 40) وهكذا يراد بالحضارة شكلا من أشكال الحياة يختلف عن البداوة، تنشأ فيها المدن والأمصار والصناعة والعمران ويضفي عليها أصحابها فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعم وإدارة شؤون الحياة والحكم وترتيب وسائل الراحة والرفاهية، وفي هذا السياق حاول بعض المفكرين تحديد الضوابط المحددة للحضارة حيث ميز (ألفريد ويبرA. Weber) بين الحضارة والثقافة فاعتبر الأولى شاهدا على الفنون التي تستخدمها الأمم لإخضاع استثمار المواد البشرية، بينما الثانية -أي الثقافة- فإنها تعكس الفن والدين والفلسفة، لكن يربط (وارد Ward) بينهما، إذ يعتبر الحضارة تمثل كافة إنجازات الأمة عن طريق المعرفة سواء كانت إنجازات مادية أو معنوية أما (هيكس J. Hils) فإنه يعتقد بوجود خيوط بين الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والعقيدة، فتتأثر تلك المجالات بالاقتصاد لكي تؤثر بعد ذلك في الاقتصاد (غانم 1990: 23)، إلا أن الدين يعد العنصر الأكثر أهمية لأنه يمثل الوازع الذي يوجه نشاط الفرد والجماعة في شتى المجالات والمعاملات، وعليه فإنه لا يمكن اعتبار التطور الاقتصادي بأي حال من الأحوال ركيزة لمفهوم الحضارة إلا إذا رفقه تقدم اجتماعي والتزام ديني يحقق العدالة والتكافل والإيثار.

مما سبق، فإنه لا يمكن اعتبار تقدم الأمم في العصور القديمة على أنها حضارات، فهي لا تختلف كثيرا في تقدمها عن النهضة الصناعية التي شهدتها أوروبا، كما لا تختلف كثيرا عن التقدم الذي تشهده بعض الأمم اليوم والتي نسميها بالأمم المتقدمة أو الصناعية والسبب في ذلك أن هذا التقدم الاقتصادي تفوق تكلفته ثماره الإيجابية، نذكر منها تزايد نضوب الثروة الطبيعية وتقلص الأراضي الزراعية وتلوث البيئة… والتي تصنف ضمن المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمعات المعاصرة، أما التكلفة لدى المجتمعات القديمة فتبز من خلال التوسع الإقليمي وهدم المعالم المعمارية، وعليه فإن للحضارة مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيكوولجية والدين، وهذا الأخير يعد العامل الحاسم والفاصل الذي تقوم عليه سائر العوامل الحضارية، ولذا يفترض في الحضارة نمو المجتمعات نموا متوازنا في كافة الجوانب السالفة الذكر، لا سيما عندما تسوده عقيدة التوحيد بكل مقوماته الإيمانية والتعبدية و التعاملية والأخلاقية وبانصرافه يعني انتكاسية حضاريا سواء كان الانحراف جزئيا أم كليا (قطب 1993: 8)، وبالتالي فإن قوة هذه الأمم أو أو ضعفها ما هو إلا مؤثر موضوعي لكل زمان ومكان يترجم مدى الالتزام بالعوامل السالفة الذكر ويقين العمل بها، فالرقي لا يمكنه أن يتحقق بطريقة تلقائية وإنما يتحقق بالسلوك الإداري والواعي للفرد والمجتمع وهذا يتطلب إصلاحا بنفس البشرية ومن ثمة إصلاحا للمجتمع.

مما سبق فإنه لا يمكن اعتبار الأنظمة القديمة حضارات وهذا من خلال الخصائص المميزة لكل أمة، فقد شاع لدى الإغريق الجدل الفلسفي وامتهان السياسة، أما الرومان فقد تفوقوا في التشريع عن غيرهم من الأمم وبرع المصريون في فنون البناء والتحنيط، إلا أن عقائد هذه الأمم كانت وثنية تقوم على تعدد الآلهة والعنصرية أي تفاضل الأجناس من ثمة فإننا سنستخدم في دراستنا اصطلاح المدنية بدلا من الحضارة، وذلك لأن المدنية تترجم التطور في شقه المادي والاجتماعي وهذا ما ينطبق فعلا مع واقع هذه الأمم، فهي لا تعدو وأن تكون شبيهة بالأمم المتقدمة اليوم لافتقارها للوازع الديني، وعليه فإن استخدام صفة الحضارة تعد من باب المجاز بسبب فساد العقيدة وعليه فإن هذه المدنية ستؤدي في نهاية المطاف إلى الهيمنة بما تحمله هذه العبارة من معاني للطغيار والظلم والاستغلال، ولا تلبث أن تنهار مظاهر التقدم ويقع المجتمع في براكن التخلف والخراب بسبب اختلاف القيم الإنسانية وسواد الفساد في مجالات الحياة الاقتصادية -الاجتماعية وشيوع الفوضى واضطراب الأمن والاستقرار، فالمدنية المادية ملكا للإنسانية جمعاء وتراث يغرف منه الجميع، أما الثقافة فإنها قومية بطبيعتها وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الثقافة الغربية تستمد مقوماتها من الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني والفكر المسيحي، بينما الثقافة العربية -الإسلامية فإنها تستمد تعاليمها من الإسلام وسنوضح ذلك من خلال عرضنا لخصوصيات التقدم الاجتماعي لأمم القديمة وكذلك من خلال علاقاتها الاقتصادية بغية استخلاص مؤشرات الهيمنة التي ترتكز إلى مبدأ القوة لانعدام الدافع الديني الذي يحول دون ذلك واختلال القيم الإنسانية بسبب الظلم والاستغلال ووفق هذا النمط سار تاريخ بابل وأشور ومصر واليونان وجزيرة العرب، فالتاريخ مشحون بالأمثلة الدالة الدامغة على أن موجات متماثلة لا نهاية لها من الإمبراطوريات قد ظهرت في الأزمنة الغابرة وارتفعت كلها رقيا هائلا وانتعشت ثم أفلتت وتلاشت (صديقي 1980 : 37)، وعليه فإن الحديث عن إحيائها كالحديث عن إعادة أيام الطفولة وهو ما يستحيل حدوثه، إلا أن للأمم أعمال كأعمار البشرية والوقائع التاريخية تبين لنا تكرر الأحداث فالرومان واليونان في العصور القديمة وأمم الغرب اليوم ينتمون جميعهم إلى نفس الإطار المادي رغم الفارق الشاسع في الزمان والمكان (صديقي 1980: 24) وهذا ما جعلنا نعتقد بالخاصية الدورية لتاريخ الأمم من خلال دراسة الوقائع الاقتصادية والقانونية وحتى الفنون والأخلاق، وهذا بالرغم من التغيرات العديدة التي حدثت في تاريخ تقدم الأمم، وكما أسلفنا فإن هذا التقدم يبزغ وينهار ولربما وجدت بعض أوجه الاختلاف وهذا لما بين البيئات من اختلاف، إلا أن التيار الذي يسير هذا التقدم والتقدم يبقى نفسه وسجلات التاريخ حافلة بالشواهد على وجود أمم إلا أنها ترتكز على قاعدة مادية منينة في غياب الدافع الديني فهل يمكن عندئذ اعتبار العلاقات التي قامت بين هذه الأمم تندرج في إطار النظام الاقتصادي العالمي؟ ومن أجل تحقيق ذلك سنركز على الجانب الاجتماعي والاقتصادي التي اتسمت هذه الحقبة التاريخية الطويلة، وفي الواقع يعسر تحديد الأمم السابقة، إلا أن الأرجح أن الأمم الأولى بزغت وانتشرت على سيف البحر الأبيض المتوسط أقدمها الأمة الفرعونية والمجتمع الروماني وما بين النهرين وغيرها من الأمم التي تركت بصماتها في سجل التاريخ، ولقد تواجدت متناثرة على ضفاف المتوسط وقامت بينها علاقات عكست سمات العصر وطموح هذه المجتمعات للرقي والتألق عن طريق استخدام جملة من الوسائل والطرق التي تمثل بالنسبة لنا مؤشرات نستخلص منها متغيرات الهيمنة وهي الظاهرة محا الدراسة والبحث فما هي هذه السمات وما هي حينئذ هذه المؤشرات؟

خصائص المجتمعات في العصور القديمة

امتازت الأمم القديمة سواء منها الشرقية أم الغربية ممثلة في اليونان والرومان بسمات عامة مشتركة، حيث اعتمدت على القوى البشرية والحيوانية في تحقيق منجزاتها الهامة التي لا زالت إلى يومنا هذا إعجازا علميا تقف عقبة أمام الباحثين رغم التقدم التكنولوجي الذي بلغه العلم الحديث، كما امتازت بنمط اجتماعي متميز يقوم على شيوع وانتشار العبودية، بالإضافة إلى سمات أخرى في المجال الديني والثقافي، هذه الخصوصيات تعكس المجهودات التي بذلت والتي برزت جليا في شتى الميادين، لا سيما الميدان الاقتصادي في مختلف الفروع كالزراعة والصناعة والتجارة ناهيك عن الجوانب العلمية والفنية، ومن ثمة فقد آثرنا في دراستنا المجتمع الروماني كنموذج توضيحي يعكس السمات التي تميز بها المجتمع في شتى الميادين وهو ينطبق على الأمم الأخرى مع وجود بعض الفرو قات البسيطة التي لا تؤثر على المسار العام للبحث محل الدراسة.

الفرع الأول: المجتمع الروماني عرفت روما في بداية نشأتها على أنها مدينة فلاحين يتعاطون الزراعة وتربية المواشي، وقد بقيت الحياة البسيطة التي تمارسها ملاك في الحقول يهتمون بالزراعة والرعي بأنفسهم دون اللجوء إلى المساعدة؛ إلا أن الأراضي الرومانية لم تكن صالحة للاستغلال، وهو ما دفع بالسكان إلى جعلها مدينة تستغل موقعها وتهتم بالملاحة البحرية ومن ثمة اهتمت بالنشاط التجاري منذ القديم وهذا قبل أن يتزايد عدد سكانها الأمر الذي دفع بهم إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب لسد نقص الإنتاج المحلي، وهكذا انقسم المجتمع الروماني إلى طبقتين، طبقة الإشراف، وطبقة عامة الشعب، بحيث كانت طبقة الإشراف أرستقراطية من الملاكين العقاريين، أما طبقة عامة الشعب فإنها مؤلفة من عناصر مختلفة جدا يتعايش فيها صغار الملاكين الأحرار والصناعيون الأحرار والصناعيون والتجار (الخوري 1968: 32)، والواقع أن الإشراف منظمين في عائلات كبرى وهذا ما فرض استعمال أسماء شخصية وحتى ألقابا، وقد تفرعت هذه العائلات إلى عائلات صغرى خضعت كل منها إلى سلطة أبوية، ولكل منها تقاليدها وأعرافها وعبادتها الخاصة، وأملاكها المتجاورة، والجماعة أحيانا، والمتمتعة بامتياز أشبه بحق استيراد المبيع منها كما تضم العائلة عبيدا يضمنون الوظائف المنزلية وحتى الفلاحين (كروزيه 1964: 168).




لقد دخل إيطاليا عدد لا يحصى من العبيد وذلك من جراء الحروب الظافرة بحيث كان قانون الحرب السائد يحول الأسرى إلى عبيد تغذى بهم الأسواق، وفي هذا السياق قام القصير ببيع مليون من الغاليين، كما كانت القرضة تمثل مصدر من مصادر جلب العبيد، ولقد استخدموا هؤلاء العبيد في شتى الأعمال، ولقد كان أكثرية العبيد من الإغريق والشرقيين الأذكياء والماهرين، وإلى جانب طبقة العبيد، نجد طبقة الفلاحين الأحرار الذين يعيشون من عملهم وهم من متوسطة وصغار الفلاحين الذين كانوا يزرعون أراضيهم بأنفسهم، وهذه الطبقة تعتبر طبقة هامة غذ قدموا لروما هيكلا اجتماعيا وعسكريا يتمتع بالقوة، وكانوا يشعرون بالخطر لما قد يصيبهم (ايمار 1964: 165) إلا أن عددهم عرف تناقص بسبب منافسة العبيد من جهة، وبسبب الحروب التي جعلت الجيش يفرض أسعار متدنية على الحبوب وهذا ما أدى بهم إلى توجيه عنايتهم إلى نشاطاتهم أخرى لا سيما تربية المواشي وزراعة الأشجار المثمرة؛ إلا أن هذا التحول لم يكن ممكنا إلا لذوي رؤوس الأموال القادرين على توظيف المبالغ اللازمة والضرورية لهذا الغرض وهذا ما نجده ممكنا لدى الأغنياء -أي الأشراف- وقد تسبب ذلك في بروز الفوارق الاجتماعية ومستويات الحياة المادية، حيث نتج عن ذلك خلافات شتى وتزايد عدد المغمورين والفقراء الذين يجهلون العمل المنظم وهكذا استغلت طبقة الأشراف هذه الفئة في إنشاء المشاغل والورش المهيمنة التي كانت تقوم في ظل المعابد والهياكل، وأصبحت هذه الفئة سبه مستعبدة، ومن ثمة حافظت المدن بدورها على المشاغل الصناعية وأصحاب الحرف.

الفرع الثاني: أقاليم الشرق والغرب لدولة روما:
لقد اشتد الصراع بين دولة روما الناشئة والفينيقيين، فهذه الأخيرة تسعر إلى المحافظة على مصالحها وتمديد عمرها خوفا من الأفول بينما تسعى روما جاهدة إلى توسيع رقعتها وتطمح للعب دور رئيسي على الصعيد العالمي آنذاك وبائت تبحث عن منافذ خارجية، وهكذا احتدم الصراع واندلعت الحرب التي عرفت بالحروب البونية (أي الرومانية -الفنيقية) ودامت عدة سنوات، ويلخصها المؤرخون في جولتين فقد بها قرطاجة سيادتها على البحار كما فقدت بها قرطاجة سيادتها على البحار كما فقدت مستعمرتها ومعظم الأقاليم التي كانت تهيمن عليها في القارة الإفريقية، وبذلك قبعت قرطاجة تحت لواء روما وأصبحت تابعة من توابعها (الخوري 1968: 45)، ومن مظاهر الضعف الذي أصاب قرطاجة مراودة ماسينيسا لها والضغط عليها من أجل الاستسلام بشتى الطرق، وكانت تحرضه وتدعمه في ذلك دولة روما وأضحى قاب قوسين أو أدنى من غايته إلا أن روما تراجعت عن مؤازرتها له بعد إدراكها لطموحاته المتمثلة في إرساء معالم الدولة البربرية القوية. فقامت بحروب ضمنت بها المقاطعات الإفريقية بعد وفاته وعملت على وأد وتمزيق أوصال الوحدة الوطنية التي سعى إلى إساء معالمها (كروزيه 1964: 538).
لقد تم ذلك بعد أن عرف الرومان التوسع وبسط نفوذهم على شبه الجزيرة الإيطالية؛ اتسع بذلك أفق علاقاتها التجارية -كما سنرى- بعد أن تم ضم الأقاليم السالفة الذكر وإعلان هذه الأخيرة الولاء والطاعة، وفي هذا السياق استطاعت دولة روما أ، تضم بعض الشعوب الصغيرة وذلك في أوروبا الوسطى والشرقية وأحدثت انصهارات لشعوب كانت وضعية جدا في الماضي وقد بلغت دولتهم بحر المانش غربا وشواطئ المحيط الأطلسي، كما استطاعت أن تضم اليونان واندفعت نحو البحر الأسود والبوسفور وبحر مرمرة، أما من الناحية الشرقية فبلغت ما بين النهرين وتمكنت من ضم أرمينيا وإنطاكية (عاصمة سوريا سابقا)، ولقد تمكنت روما من تنظيم ومراقبة حدودها وتحصينها وذلك عن طريق بناء الأبراج والقليعات والحصون والمعسكرات، ونهجت في ذلك الطرق المستخدمة في المناطق الشرقية، كما اعتنى ببناء أسوار المدن وأدخلت التحسينات عليها (كروزيه 1964: 542) فكانت بذلك المدن عبارة عن معاقل لا تقهر أمام الغزاة والمعتدين ولقد استخدمت الإمبراطورية وحدات من الحاميات تقيم على مسافة كبيرة من الحدود، وحتى في قلب الأراضي الرومانية من أجل بسط الأمن الداخلي، أما في حالة الحرب فإن الأمر يستدعى القيام بالتجنيد للشباب البالغين من دخول الخدمة العسكرية ولقد كحان أكثر السباب المجندون من سكان الأرياف، وقد تلجأ الدولة في الغالب الأعم إلى استمالة المتطوعين بالمال، أو تحفيز العبيد بالإعتاق، واعتبر التجنيد وظيفة عامة في حد ذاتها، ومن حق المجند بعد قضاء عشرين عاما التمتع بالشرفية أي الاحتفاظ باللقب والامتيازات الشرفية (كروزيه 1964: 578).

إن عملية ضم الأقاليم جعلت روما تقوم بالتقسيم الإداري لمجمل أراضيها، غذ قسمت إلى ولايات ويقوم الإمبراطور بتعين الحكام وذلك بدافع الحذر السياسي، وتخفيفا من العبء الملقى على كاهل الإدارة المركزية إلا أن أهمية هذه الولايات تبرز من خلال أهمية الحاكم ومرتبته، وفي هذا السياق يذكر المؤرخون ثلاثة من الحكام تمتعوا بالقوة وحملوا لقب "بروقنصل" القديم وهم حكام آسيا وإفريقيا وآخيا -أي اليونان- حيث أضيف هذا المنصب لليونان احتراما لماضيها، ونظرا لصعوبة اتصال الحكام بالقيصر، فقد سن هذا الأخير منصب "الأبرشية" أي وكيل قائد حرس القيصر، ومهمته حلقة وصل بين الولايات والإدارة المركزية كما أسندت لهم مهمة القضاء الاستئنافي (كروزيه 1964: 479/591).

مؤشرات الهيمنة لدولة روما على النظام الاقتصادي العالمي

لقد امتازت الأمم -كما ذكرنا- سواء الشرقية أو الغربية بسمات عامة مشتركة حيث اعتمدت على القوى البشرية والحيوانية في تحقيق منجزاتها الهامة، هذه الخصوصيات تعكس المجهودات التي بذلت وبرزت جليا في شتى الميادين، لا سيما الميدان الاقتصادي في مختلف الفروع كالزراعة والصناعة والتجارة، ناهيك الجوانب العلمية والفنية وفي هذا المقام سنركز على الجانب الاقتصادي، لا سيما المبادلات التجارية، وفي هذا السياق اعتمد الفينيقيين على تطوير الموانئ والمسالك المائية بصفة عامة لاعتقادهم بأن لها دور أساسي في توزيع التجارة، وهكذا قاموا بإنشاء الموانئ في إسبانيا وصقلية وسردينيا وكورسيكا وبعض أنحاء إيطاليا الجنوبية، كما بسطوا سلطانهم على الجزر البريطانية شمالا وشواطئ إفريقيا السوداء على المحيط الأطلسي، (96: 1964 Remondon) ومن أجل التحكم في هذا التوسع طوروا الأسطول البحري والتجاري، ولتسهيل المعاملات أنشأوا نقود مصنوعة من الجلد سعيا منهم لتذليل الصعوبات الناجمة عن المقايضة وهي في ذات الوقت أفضل بديل للنقود النحاسية بحيث وضع خاتما على النقد الجديد لتأكيد قيمته (104: 1964 Remondon) إلا أ، الصراع الخفي بين الفينيقين والرومان أصبح واضحا بل اشتد بعد أن أصبحت روما تطمح في لعب الدور القيادي للنظام القديم وبرز ذلك جليا بعد أن فلحت في توحيد لإيطاليا، وباتت تبحث عن منافذ خارجية، وفي هذا المجال أبرمت معاهدة تجارية وذلك سنة 30 ق.م مع قرطاجة تسمح بموجبها روما لقرطاجة بحرية التجارة في موانئها -مع العلم أن قرطاجة هي التي قامت هذه الموانئ -لا سيما صقلية شريطة أن لا يقتحموا الأسواق الإيطالية (أيمار 1964: 583) ورغم مواقفها إلا أن روما روما نقضت المعاهدة من طرف واحد ومنعوهم من استخدام الموانئ وقد أدى ذلك إلى نشوب حرب دامت عدة سنوات وعرفت بالحروب البونية، فقدت فيها قرطاجة مستعمراتها العديد ومعظم الأقاليم الإستراتيجية التي كانت تهيمن عليها لا سيما في القارة الإفريقية وجنوب إيطاليا، وهكذا وهنت قرطاجة بفقدان سيادتها على البحار وقبعت تحت لواء روما وأضحت من توابعها، وهكذا بعد ضم الأقاليم والتوسع، اتسع أفق علائقها التجارية حيث دفعها نقص إنتاجها الزراعي إلى الاستيراد تراة، وضم الأقاليم عن طريق الغزو تارة أخرى لا سيما تلك تمتاز بالسهول الخصبة وهكذا مالت كفة الاستيراد على التصدير، حيث تخصصت روما في تصدير النبيد والخزفيات والمصنوعات المعدنية (إيمار 1964: 585)، ولقد ساعدها إرث تجارة قرطاجة على لعب دور المضارب بين طرفي حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن ثمة أدت دورا رئيسيا في النظام الإقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه أساسا من خلال تنشيطها للوسط المالي المنظم الحركة، أي دور السوق الوحيد لرؤوس الأموال، وهذه المهمة تعد بمثابة سابقة مرتبطة أساسا بدولة روما إذ لم ترثها عن أي مركز آخر والسبب في ذلك يعود لتجمع ضخم من الثروات، ولقد كانت الساحة العامة لروما -Forum- التي تعد بحق مركز بورصة حقيقي يتم فيه إبرام القروض والديون ووثائق التحويل على الثروات البعيدة والمساهمات في المشاريع المالية والتجارية وذلك وفق مخطوطة نقل المعادن الثمينة فعليا إلى مسافات بعيدة تجنبا لمخاطر السفر مع الإشارة إلى أن قسطنطين ضرب النقود الفضية وبأوزان مختلفة وهذا من أجل تأمين حاجات التداول (كروزية 1964: 595)؛ إلا أنها اختفت وراجت بدلا عنها القطع النحاسية والقطع البرونزية، لقد عرفت قيمة النقود تأرجحا بين الارتفاع والانخفاض وقد أثر ذلك على ارتفاع الأسعار، هذا ما دفع بالإدارة المركزية إلى تحديد سقف للأسعار أو الحد الأعلى القانوني، كما سن قانون يحظر احتكار السلع وتخزينها ويعاقب المخالفين بالإعدام وحددوا أنواع السلع التي يمسها الحظر وهي على النحو التالي (كروزيه 1964: 597):

- المواد الغذائية والخامات والمصنوعات.
كما فرضوا سقفا أعلى للأجور في القطاعات التالية:
- إنتاج المواد الغذائية
- قطاع المواد الأولية
- قطاع الصناعة
- أجور النقل
- مرتبات المهن الحرة

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية ومن ثمة فإن هذه الوقائع تنفذ فكرة الدولة الحيادية أو الدولة الحارسة التي ترددت في الأدبيات الاقتصادية دلالة على بدائيتها، فلقد اتخذت الإدارة المركزية للرومان إجراءات لتأمين الغذاء للعناصر المحظية من السكان، حيث كانت تقوم بجباية الضرائب علينا، ولقد فرضت على مصر تموين القسطنطينية، بينما تقوم إفريقيا بتأمين تموين إيطاليا، واستأثرت روما لنفسها بالإنتاج الخامات والمصنوعات، حيث كانت المناجم والمحاجر تقريبا ملكا للدولة التي تمتلك من جهة ثانية مصانع يدوية مختلفة، فهذه الوقائع كلها تثبت من جهة تطور مفهوم الدولة واتساع أفق تدخلها في المجال الاقتصادي من جهة، كما برز تقسيم العمل بين المركز المهيمن والأطراف التابعة من جهة أخرى وفي هذا السياق نذكر أن دولة روما أخضعت الأقمشة الثمينة تحت طائلتها وفرضت عليها استخدام اللون الأرجواني، وفي ذات الوقت أحضرت صباغة الحرير باللون الأرجواني كما منع تصنيعه في غير المصانع الحكومية.

إن الحديث عن المبادلات التجارية لدولة روما يقودنا إلى الحديث عن الأمم التي عاصرتها، وفي هذا الإطار نشير إلى أن الأمم التي تعاملت مع روما تتمثل في مدينة بلاد الهند والفرس وكذلك مدينة الصين، ولقد أشارت الدلائل التاريخية إلى أن الحركة التجارية كانت نشطة ومزدهرة في القرون الأولى للمسيحية، ولقد ساعد على ذلك شبكة المواصلات البحرية والبرية على السواء التي كان يعتمدها التجار والتجول بين الشرق والغرب وشملت حركتهم حوض المتوسط إلى أطراف الشرق الأقصى وقد تحكم الفرس في هذه الحركة لما تتمتع به من موقع جغرافي استراتيجي لوجودها من الصميم في هذه الشبكة الدولية للطرقات البرية والبحرية، ولقد عمل الإيرانيون على احتكار فوائد التجار مع الصين والحيلولة دوما دون إقامتها مع الإمبراطورية الرومانية مباشرة وهكذا هيمنت على التجارة الحرير والطرق التي تمر بها، مع العلم بأن الحرير من المصنوعات الرائجة لازدياد الطلب الروماني على الكماليات القادمة من الهند والصين أو من أقطار الواقعة إلى الجنوب الشرقي من القارة الآسيوية، وكان من مصلحة الهنود والصينيين تأمين وصول البضائع والسلع وغيرها من المصنوعات التي كانت عملية الاستيراد مكلفة ومنهكة لثروة البلاد لا سيما بعد أن قلت صادراتها والتي تتألف على الغالب من المرجان وصحائف البرونز والزجاج والعقيق المنقوش والمصابيح الرومانية و إذا كانت هذه الحركة مفيدة للوسطاء والمضاربين من تجار الإسكندرية وسوريا فإنها كانت مكلفة للرومان، وهذا ما دفع ببعض المصلحين إلى شجب السعي وراء هذه السلع والتهافت على استيرادها وذلك في القرن الأول للميلاد (كروزيه 1964: 680-682) وقد أثر ذلك سلبا من خلال فرض ضرائب جديدة على الأقاليم وإثقال كاهل الطبقات الدنيا هذا نتيجة لتزايد النفقات، وقد أدى ذلك إلى انحطاط الجيش وضعفه لاتصافهم في البذخ والترف وما يجلبه التجار الشرقيون الذين سيطروا على حركة الاستيراد وفرض أسعار عالية ثم بواسطتها امتصاص ما تراكم من احتياطي المعادن النفسية في الغرب وقد تسبب ذلك في انخفاض قيمة النقد الفضي (كروزية 1964: 15) فأصبحت بذلك المواد الغذائية صعبة المنال وهذا ما جعل أثرياء المدن ينزحون نحو الأرياف رغبة منهم في تأمين حاجاتهم الغذائية متخلين بذلك عن الكماليات المستوردة من الشرق لارتفاع أسعارها وهكذا فإن انحطاط المدن وإثقال كواهل الناس بالضرائب كانا السبب المباشر في انهيار طبقة صغار الملاك ولجوئهم إلى طلب الحماية من الأشراف وهكذا قضي تماما على الطبقة الوسطى، أدت هذه المظاهر الاستبدادية إلى انتشار الفوضى نتيجة لكثرة الاضطرابات والانتفاضات الشعبية، حيث ثار العبيد على أسيادهم، كما ناصر البؤساء من الفلاحين جحافل البرابرة الغزاة وشدوا أزرهم كما عمت الفوضى مرافق البلاد الاقتصادية (كروزية 1964: 542) وقد أدى ذلك إلى انقطاع وسائل الاتصال وانقطع استيراد المواد الغذائية من الخارج، وقد أدت هذه الظروف إلى سقوط روما سنة 410 بيد البرابرة، الذين يعيشون على حدود الإمبراطورية وهم الجرمان الذين يمثلون أحلافا عسكرية مشكلة من أقوام وشعوب كالإفرنج والألمان والبورغونيون والفندال، ومما ساعدهم على دخول روما هو أن الحدود التي كانت تفصل بينهم وبين الرومان ليست صعبة النفاذ ومن ثمة سهل اغتصاب المدينة وانهارت أمام السيل الجراف (398: 1977: Abertini) وهكذا نهبوا كنوز البلاد، وتقلصت الأمة الرومانية عن حدودها الشمالية وانكفأت إلى الجنوب حتى مشارق البحر الأبيض المتوسط، فعادت بذلك وئيدا لسيرتها الأولى وهكذا هيأت صراعات القرن الرابع الظروف لانسلاخ بعض الأقاليم لا سيما بلاد الغرب من جسم الإمبراطورية الرومانية ذلك الانسلاخ الذي تم بسهولة على الوندال وفشل البيزنطيون في إعادة وضمه إلى إمبراطوريتهم لا سيما بعد أن تمتع المغاربة بالحرية في ظل الامارات التي أقاموها على حطام الولايات الرومانية السالفة (شنتي 1981: 369).
استنتاجات عامة
إن المرحلة القديمة تعد أطول مرحلة تاريخية وهذا من حيث المدة الزمنية، ولقد فضلنا عرض المدينة الرومانية وذلك لكونها مدينة تستمر حتى القرون الوسطى وسيكون لها دورا لا سيما في مواجهة الحضارة الإسلامية بالإضافة إلى أنها تميزت بجملة من الخصوصيات نلخصها في النقاط التالية:

1- من خلال عرض للمجتمع الروماني يتبين لنا بأنه مجتمع يقوم على الطبقية ويمكن إدراجها في إطار المجتمعات التي ترتكز على قاعدة عرضية من العبيد، هؤلاء العبيد الذين يتكونون من عدة أجناس وهم مشكلون من أسرى الحروب عادة وهذا بعد القيام بضم الأقاليم، وقد ذكرت المصادر التاريخية أن ظاهرة الاستعباد ظاهرة شائعة لدى كل المدنيات القديمة، إلا أن الرومان تميزوا عن غيرهم من المدنيات الأخرى في تحرير العبيد وذلك عن طريق إدماج الأقوياء في الجيش والتجنيد للدفاع عن الحصون والقلاع لكن مع بقائهم في خدمة أراضي.
2- من خلال عرضنا للوقائع التاريخية للمدينة الرومانية اتضح لنا أن مفهوم الدولة يعد مفهوما راقيا مقارنة لما ذهب الكثير من الباحثين الاقتصاديين المهتمين بتاريخ المجتمعات لا سيما المدرسة الماركسية والتي تعتقد بأن مفهوم الدولة إلى عهد غير بعيد بدائيا في شكله ومضمونه وقالوا بأن الدولة تلعب دور الحارس أو بعبارة أخرى الدولة المحايدة وذلك من خلال عدم تدخلها في الشؤون الاقتصادية، لكن الواقع التي ذكرناها تثبت عكس ذلك فالدولة لعبت دورا رئيسيا في توجيه وترشيد دواليب الاقتصاد ومن خلال فرض الحد الأعلى للأسعار حضر احتكار بعض المواد -التي سبق ذكرها- واستئثارها ببعض القطاعات من جهة وكذلك من خلال فرض الحد الأعلى للأجور وحددت المجال التي ينطبق عليها هذا القانون، وهذا ما يشبه إلى حد كبير السياسات الاقتصادية التي تسطرها الدولة لمكافحة التضخم أو أية ظاهرة أخرى تعيق السير الحسن لاقتصادياتها الوطنية وفي هذا السياق نشير إلى أن أول تضخم سجله التاريخ يعود إلى العهد الروماني والذي كانت آثاره سيئة جدا والذي نجم عن الغش في معدلات المعادن الاحتكارية؛ ولقد بينت الحفريات التي قامت بها بعثتان بريطانية وفرنسية العثور على اكتشاف هام، حيث اطلعت على مستودع به الخزف الأحمر والأسود من مصنوعات إيطاليا يحمل ختم الخزافين كما وجدوا جرارا وخوابي مستعملة للنبيذ المستورد من مناطق مختلفة من بلدان البحر المتوسط، كما اكتشفوا قطعا من العقيق الأحمر نقش عليه رسم أو غسطس وصورة شخص صغير منقوشة على قطع من الزجاج لطريقة الحفر الرومانية، ولقد قامت هذه المبادلات التجارية لإقبال المتزايد للطبقة المترفة، ولم يقتصر المال على هذه الأقطاب بل تطورت المعاملات مع شمالي أوروبا وشرقها، وعلى هذا المنوال جرى الأمر مع أوساط إفريقيا إلا أننا فضلنا ذكر علاقتها مع الأقطاب الثلاثة السالفة الذكر لكون البقية الباقية تمثل امتدادا للمدنية الرومانية، وبالتالي فإن المعاملات التي كانت تتم مع المركز المهيمن تميزت بالسخرة، وعملية التموين وجبي الضرائب بشتى أشكالها وتمثل في حقيقتها الولاء ولاذعان للسلطة المركزية.
5- لقد اهتمت الأمم القديمة بترقية المواصلات، ويبرز ذلك بوضوح من خلال تشييد الموانئ فهذه قرطاجة التي قامت ببناء الموانئ في إسبانيا وصقلية وسردينيا وكورسيكا وكذلك الموانئ المتناثرة على الشمال الإفريقي و على شواطئ إفريقيا السوداء على المحيط الأطلسي بينما قامت الإمبراطورية الرومانية ببناء ميناء مرسيليا وشق الطرقات البرية لربط تجارتها مع الهند والصين وإيران؛ هذه الأخيرة التي هيمنت على الطرقات لا سيما تلك تمر بأراضيها، بالرغم من وجود طريقة بحرية كانت تنطلق من مصب دجلة والفرات فتصل إلى مصب نهر الهندوس، ولقد استطاعت روما أن تطور أسطولها البحري بنفس الطريقة التي استخدمت لدى الفينيقيين، بحيث تمكنت هذه السفن من بلوغ الهند وسيلان والوصول منها إلى الهند الصينية (75: 1964 Remondon) وهكذا كانت الدوافع الاقتصادية تمثل العوامل الرئيسية إلى تجثم مصاعب شق الطرقات سواء كانت البرية أو البحرية، حيث كانت أهمية المواصلات بالنسبة لهم تعادل أهمية ضم الأراضي والأقاليم التي تعتبر هي الأخرى تنمية للرصيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

خلاصة القول، فإن مؤشرات الهيمنة التي يمكن استخلاصها من عرضنا للمدينة الرومانية تتمثل في التوسع الاستعماري وضم الأقاليم والاستفادة من هذا التوسع عن طريق مد شبكة الطرق وتوفير وسائل النقل وإنشاء المؤسسات الدفاعية والسهر على أمن المزارعين وحماية النشاط الفلاحي من مخاطر الثائرين ممن الأهالي، كما أنشأت مراكز التخزين والتصدير في الشواطئ من جهة، وعززت هذه المنشآت العسكرية من حصون ونقاط مراقبة ومعسكرات وأحكامات الحدود من جهة ثانية، ولقد نما الحافز الاقتصادي للتوسع الاستعماري فأصبح متجليا في سياسة الأباطرة من خلال تقسيماتهم الإدارية التي تلعب دورا هاما في تأمين التموين بالمواد الغذائية للمركز المهيمن ولقد زادت الرغبة في ذلك بسبب النمو الديموغرافي المضطرد، و مهما يكن من أمر فإن النشاط التجاري يمكن أن نصنفه إلى قسمين:

1- الحركة التجارية الداخلية ونقصد بها تلك المعاملات التي تتم مع المستعمرات وهي قصرية تعبر عن الولاء بها الحكام الذين يعينهم الامبراطور على رأس الولايات، كما يقوم بها التجار إلا أنها تكون مقيدة بحيث لا تتجاوز رقعة الإمبراطورية، كما حضرت بعض المنتجات من التجارة -كما رأينا- وحدد لها سقفا أعلى لأسعارها كما حدد لها سقفا أعلى لأجور المقدمة للعاملين في إنتاجها، يعد هذه الإجراء من باب أدوات السياسة الاقتصادية التي تسعى إلى كبح ظاهرة التضخم من جهة وتأمين حاجيات السكان المتزايد من ناحية أخرى.
2- الحركة التجارية الخارجية، ونعني بها تلك الحركة التي تتم مع العالم الخارجي أو بالأخرى مع إيران والهند والصين، وقد بينا كيف أن إيران تحتكر السلع القادمة من شرق آسيا وذلك لموقعها الجيو استراتيجي والذي تتمكن الإمبراطورية الرومانية من إزالة آثاره عن طريق الغزو أو الاستعمار ويعود ذلك لقوة هذه الأمة وإمكانياتها الدفاعية وكذلك لبعدها عن مراكز الإمبراطورية الرومانية وعدم مجازفة هذه الأخيرة للدخول في حروب خاسرة، ومن أجل ذلك تتقبل الإمبراطورية الرومانية التكاليف الباهظة لوارداتها من الهند والصين وتخصص لذلك أموالا طائلة، ويمكن اعتبار هذا الاحتكار بمثابة الرسوم الجمركية -وهذا وفق المنطق المعاصر- التي تفرضها الدول على العبور والتي هي محل مفاوضات ومناقشات لم تخلص إلى نتيجة سواء منها الثنائية أو تلك التي تجري في ظل المنظمات الدولية كالجات مثلا.

مما سبق يتبين لنا بأن مدنية الرومان ككل المدينات القديمة التي تولد ثم لا تلبث يعد حين أن تندثر، مع ذلك فإن هذه المدينة القديمة كانت أكثر روعة في مظهرها من المدينة الموجودة اليوم ولو أنها ترتكز على القاعدة المادية البهتة، حيث طغت على الرومان الفلسفة المادية الحسية للحياة، وقد أباح النظام الاقتصادي المهيمن الذي ساد ذلك العصر بأن تتمتع القلة وهذا على حساب فقر الكثرة وشقائه، أباح تقدم وازدهار مناطق على حساب تخلف مناطق أخرى وكل محاولة لتغيير هذا النظام والمطالبة بالعدل والمساواة يقابل بالقمع ويرجع السبب في ذلك إلى غياب الوازع الديني وانتشار الوثنية وتحريف تعاليم الدين المسيحي الذي دعى إلى التوحيد وحث أتباعه على العطف والرحمة الإيثار والتكافل واجتناب الظلم والاستبداد، وما اعتناقهم للوثنية إلا مؤشرا على اعتماد مبدأ تفاضل الأجناس أو ما يطلق عليه اليوم بالتمييز العنصري لبني البشر إذ كانوا يمجدون كبريائهم ويقيمون استعراضا لأعمالهم الوحشية، حيث كانت التضحيات البشرية شعائر معتادة في المجتمع الروماني كمثله من المجتمعات الوثنية، وحتى مع انتشار المسيحية، ظلت فكرة التفاضل العنصري منتشرة، وما لبثت أن بذلت الجهود من أجل تحديد اللاهوت المسيحي وطرحت فكرة علاقة الأب والابن وقد طغى الجدال إذا بلغ بهم الأمر إلى الاعتقاد بوجود إلهين (أ إيمار . ج2: 1964: 620) ومع ذلك لعبت الكنيسة دورا حاسما في النشاط الاقتصادي، بعد أن اعترف الإمبراطور للكنيسة بحقها في تقبل الهبات، إلا أن الدور تجاوز المساعدات والهبات، حيث عرف الأساقفة بثرائهم واستخدام العبيد كما امتلكت الكثير من الأراضي وما لبثت أن أصبحت من أهم الملاك العقاريين في الإمبراطورية وقد أخضعت للموجبات العامة التي تناولت الأملاك الإمبراطورية ذاتها، ومن أجل الدفاع عن مصالحها قامت الكنيسة بتقسيم المجندين للجيش وفرضت عليهم الدولة الضريبة الشخصية مثلها في ذلك مثل طبقة الأشراف (أ إيمار ج2: 1964: 616) اعتبار المدنية الرومانية حضارة وذلك لانعدام الجانب العقائدي الموحد الذي يخلق التوازن مع الجانب المادي أي الاقتصادي الذي لا يكفي وحده بل يجب أن يرافق تقدم اجتماعي والتزام ديني يحقق العدالة والتكافل والإيثار فهل تحقق ذلك في القرون الوسطى وهل يمكن استخلاص مؤشرات جديدة للهيمنة لهذه المرحلة التاريخية الهامة التي تميزت بظهور الإسلام والدول الإسلامية التي وقفت موقف الناد للند للمدنيات الأوروبية، هذا ما سنعالجه في المبحث الموالي والذي خصصنا للنظام الاقتصادي العالمي خلال القرون الوسطى.

مؤشرات الهيمنة من حلال النظام الاقتصادي العالمي عبر القرون الوسطى

مقدمة
يحدد علماء التاريخ بداية مرحلة العصور الوسطى بانهزام البيزنطيين أمام المسلمين وذلك سنة 476 م وتنتهي بسقوط القسطنطينية أمام العثمانيين سنة 1453 م ومنهم من يمددها إلى سنة 1492 م تاريخ اكتشاف كريستوف كولمبس قارة أمريكا، وعليه فإن هذه الحقبة التاريخية يشتمل فجر الإسلام والفتوحات الإسلامية من ناحية وبعبارة أصح وأدق الحضارة الإسلامية، وصراعاتها مع المدنيات التي عاصرتها منها المدنية الفارسية والمدنية البيزنطية، وسنركز في هذا المبحث على خلفيات الفتوحات الإسلامية خلال القرون الوسطى مع التركيز على جانب المعاملات الاقتصادية في إطار النظام الاقتصادي العالمي الذي ساد هذه المرحلة الهامة من التاريخ البشري.

لقد عمدنا في هذا المبحث إلى استخدام اصطلاح الحضارة، وذلك تماشيا مع التعريف الذي قدمناه، ومن أجل تعريف الحضارة الإسلامية فلا بد من معرفة وضع الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما يستوقفنا في هذا المجال، التسمية التي أطلقها المسلمون على الفترة التي سبقت ظهور الإسلام والمتمثلة في اصطلاح الجاهلية، ولقد ورد في أساس البلاغة للزمخشري شرحا للفظ الجاهلية بمعنى السفاهة وجهل الحق بمعنى أضاعه، فالمعنى هنا ليس المراد به نقيض العلم بل المعنى نقيض الحلم فهي بذلك تعبر عن معنى سلوكي أخلاقي، ولقد ورد في القرآن الكريم هذا للفظ وهو يدل على خلو النفس من العلم واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه وكذلك فعل الشيء بخلاف ما يجب أن يفعله به (جوادي 1993: 21) فهذه الصفات تعكس حقيقة وضع العرب قبل الإسلام، ومع ذلك فإن هذه الصفة قد استثمرت في نفوس كثيرة من الناس حتى بعد ظهور الإسلام الذي حير العقول، فقد كان العرب قبل الإسلام مشتتين قبائل، لا ذكر لهم بين البريئة، فجمع شملهم واستطاع أن يخرج من عرينه بالجزيرة العربية مبلغا لرسالة التوحيد إلى كافة أرجاء المعمورة، فانهارت المدنيات وذابت ذوبان الشمع وبذلك أخذ مكانة مرموقة بين الأمم، ويكمن سر نجاحه في كونه ثورة تحريرية، حررت الفكر كما حررت الروح، حررت الفكر من الوهم والخرافة ووجهته إلى تنمية الحياة في الأرض دون تخوف من الطبيعة التي تمثل له عونا مساعدا لا عدوا مناوئا، وحررت الروح من الهبوط والتروي وجعلته يرتاد الأفاق العليا وجذب الحياة كلها إليه (السيد قطب 1993: 35) ولقد عمل الإسلام على تحقيق التوازن إذ شد الحياة النامية على الأرض إلى آفاقها العليا في السماء تجنبا للانزلاق في حضيض المادية المطلقة فتصاب بما أصيبت به المدنيات السابقة.
وهكذا تمكن الإسلام بفضل هذه المعادلة من فتح الأقطار والأمصار باسم هذه الثورة التحريرية التي حمل لواءها لا بقوة السيف الحديدية أو بخلفيات الأغراض الاقتصادية -كما رأينا ذلك عند الرومان- يمكن سر نجاحه في طبيعة هذه العقيدة وفي طبيعة النظام الذي ينبع منها، ولقد انظم رجال أعلام في السياسة والفكر وحتى في القتال إلى جبهة الإسلام راضين متطوعين لما لمسوه من عدالة وتوازن في ظل النظام الإسلامي المستمد من نصوص القرآن الكريم وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، والذي مكنهم من التحرير الوجداني والاجتماعي السائد خلافا للمسيحية التي استنفذت أغراضها وصارت إلى ما صارت إليه في ذلك الأوان وباتت عاجزة عن تحقيق العدل والتكافل والاجتماعي، لفساد العقيدة وتواطئها مع النظم في استغلال مجتمعاتهم وزرع التفاضل ما بين الأجناس.

ومن أجل معرفة الدور الإيجابي الذي حققه الإسلام وإبراز دوره في النظام الاقتصادي العالمي بالتركيز على المبادلات التجارية، وخلفيات الانحطاط وأسبابها فإننا سنعتمد الخطوات التالية:

1- الفتوحات الإسلامية وخصوصياتها.
2- المعاملات الاقتصادية للدولة الإسلامية وعلاقاتها بالأمم الأخرى.
3- انحطاط الدولة الإسلامية وتشتتها.

ولقد ركزنا على الحضارة الإسلامية لهذه الحقبة التاريخية نظرا لكونها تمثل حجر الزاوية في النظام الاقتصادي العالمي وباعتبارها تمثل مركز إشعاع حامت حوله الأقطاب الأقطاب المعاصرة ومن ثمة فضلنا التطرق إلى هذا النمط الذي سيتيح لنا السبل الناجعة لفك الظاهرة محل الدراسة.

الفتوحات الإسلامية وخصائصها

لقد خرج المسلمون من ديارهم استجابة الله ورسوله الذي أكدي أن الجهاد ما هو إلا قتال حتى تكون كلمة الله هي العليا فذلك جهاد في سبيل الله، ولقد اعتقد البعض أن الفتوحات مجرد توسع سعيا للكسب ومأثرة للفاتحين في جميع العصور، والواقع أن الإسلام جعل من الحرب آخر وسيلة، كما جعل الدعوة إلى الدين دون إكراه، وبذلك يبتعد عن العصبية الدينية كما يستعبد سيادة عنصر أو تغليب جنس أو أن تستذل بعضهم رقاب بعض أو كأن يسود جنس أو شعب، جنس آخر (سيد قطب 1993: 38) كما استعبدت الفتوحات الفتوحات اكتساب أمجاد شخصية للملوك أو القواد، فالفتح إذن يراد به نشر رسالة التوحيد ويراد تحقيقها وبذلك ينفي الطابع التوسعي الاستعماري كما ينفي الطابع الاقتصادي الذي يهدف إلى تأمين أسواق تصريف المنتجات وتأمين أسواق لجلب المواد الخام واستغلال الموارد ولقد تشجع الجيش الإسلامي بفكرة التبليغ وهكذا سهل فتح الشام (أي: سوريا ولبنان وفلسطين) سنة 636، ثم فتح العراق في السنة الموالية، كما تم فتح مصر سنة 642 وكذلك إيران أرض فارس ولقد تعاون السكان في كل مرة مع العرب الفاتحين، كما فتحوا بلاد المغرب وبلغوا مشارف الأندلس وهكذا توسعت الرقعة الإسلامية من نهر الهندوس شرقا إلى الهند التاج في إسبانيا غربا ومن بحر أرال شمالا إلى إقليم السنغال جنوبا (113: 1964 Perroy) ولقد جرى بعد الفتح تنظيم هذه البلدان في إطار وحدة مثالية وإذا كانت الفتوحات الجرمانية قد أدت إلى تقسيم أوروبا فإن الفتوحات الإسلامية قد سمحت بوحدة هذه الإقليم رغم اتساع رقعتها -على تعبير بروي- وبدلا من أن يذوب الفاتحين أكثرية السكان الأصليين، فقد فضلوا المكوث في خيام عسكرية خاصة بهم وذلك في مناطق لم تأخذ بعد بأسباب الحضارة والتطور (114: 1964 Perroy) والتي قاموا بتعميرها وأصبحت مدنا لازالت شاهدة إلى يومنا هذا على المساهمات التي قدمها الفاتحين في تعمير الأرض كالكوفة والبصرة في جنوب العراق والفسطاط والقاهرة في مصر والقيروان في تونس، وكلها مراكز زراعية تقع على مقربة من الصحراء في الداخل بعيدة عن البحر.

وهذا يبين أن الفتوحات عملت على أن تكون كلمة الله هي العليا مع ضمان حرية الدعوة وحرية العقيدة وفي هذا السياق أكد الدين الإسلامي على الرفق بأهل الكتاب شريطة الولاء للحكم الإسلامي والاعتراف بسيادته وسلطانه وتأدية الجزية ومن ثمة تمتعوا بكافة حرياتهم وهذا ما لم نجده في تاريخ البشرية الطويل والسبب الرئيسي في تفرد المجتمع الإسلامي بنظامه الخاص الذي يبرز من خلال المعاملة التي حظيت بها الأمم المتقنة لهذا الدين، أنه مجتمع من صنع شريعة خاصة وجدت كاملة منذ نشأتها مدرجة تاريخيا ووجدت علاقات العمل والإنتاج والحكم، وقواعد الآداب الفردية والاجتماعية ومبادئ السلوك، وسائر مقومات المجتمع الخاصة التي تحدد خصوصياته وتبين له معالم النمو والتطور (سيد قطب 1993: 63) وهكذا كان المجتمع الإسلامي من صنع الشريعة وليس المجتمع هو الذي صنع الشريعة كما هو الحال لدى الأمم الأخرى، وهكذا انتظمت العلاقة بين الدول الإسلامية وسكان البلاد الأصليين بسهولة كلية وفقا لروح القانون المعمول به في البلاد والنظام الساري المفعول باستثناء ما كان منها تابعا للحق العام فمرده إلى ولي الأمر، أو ما تعلق بالعلاقات الخاصة بين هذه الطوائف فكان أمره متروكا للقضاة الذين كانوا يتمتعون بالسلطة المطلقة وحرية اتخاذ القرار رغم أنهم يعينون من طرف الحاكم الذي يؤمن لهم رواتبهم من بيت مال المسلمين، وفي ذات الوقت يسهرون على تطبيق قانون لم تكن الدولة أصدرته بل تابع عن الشريعة السمحاء والسنة الشريفة (116: 1964 Perroy).




وهذا ما يؤكد بأن الفتوحات الإسلامية لم تكن بهدف التوسع الإقليمي بل كانت تكليفا ربانيا لهذه الأمة وليس هوى ذاتيا ولا شهوة بشرية بل الغاية منه إزالة الفتن التي تلهي الناس عن إلههم الحق، غذ بإزالة الفتن يتحرر الناس من كل القيود فالفتوحات لم تكون استعبادا للناس بل كانت تحريرا للمستعبدين، ولم تسع لتكوين الإمبراطوريات بل سعت إلى تكوين الأمة الفريدة في التاريخ (سيد قطب 1993: 33) وهكذا ما دامت هذه الحضارة محافظة على التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي فإنهم يظلون متمكنين أما إذا فقدت توازنها وأهملت أحدهما فإن الحضارة مآلها الأفول لا محالة ومن ثمة لا يمكن أن نحمل الإسلام مسؤولية الجمود التاريخي الذي استتبع بتحجر في تفسير الدين (سمير أمين 1992: 201) وهذا ما يؤدي إلى الانحطاط نظرا لدبيب الفساد الأخلاقي، ونبذ عزائم الدين واتباع شهوات الأنفس والصراع من اجل الإمارة مما لولاه لدانت لهم القارة الأوروبية بأجمعها، وهكذا فالحضارة الإسلامية تكمن في التوازن وفقدانه معناه ذهاب ريحهم (ش . أرسلان 1990: 121) فالإسلام يمنح البشر الحرية في اختيار طريق الأخلاق أو التراجع والنكوض، والمقصود هنا بالأخلاق العقيدة الخفية التي تحملها أية أمة في مثلها الأعلى تقودها إلى طريق المجد وهكذا فإن الانحطاط الخلقي لدى أمة من الأمم هو العامل الرئيسي لأفول ولا ينقذها قوتها العسكرية ذلك لأن النسيج الاجتماعي يصبح مهيأ للفتنة ولقد عبر أحدهم عن أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية قائلا: "إن جمهرة الموظفين ذوي الامتيازات لم تقم إلا بتقليل عداد دافعي الضرائب وزيادة النفقات و ازداد عبء الضريبة أكثر فأكثر على الطبقات التي تقل عنهم غنى، ولم يستطع موظفو الولايات أن يسددوا العجز حتى بالتضحية بأموالهم الخاصة، فتدهوروا هم أنفسهم، واتسعت بذلك طبقة الفقراء وعبيد الأرض (صديقي 1980: 168).

المعاملات الاقتصادية للدولة الإسلامية وعلاقاتها بالأمم الأخرى

يندرج الاقتصاد الإسلامي ضمن الفكر المذهبي حيث يمتاز عن غيره من الأنظمة الاقتصادية في اعتماده على الواقعية والأخلاقية، إذ ترتبط العقيدة بين الفرد والتكاليف التي تفرضها عليه هذه العقيدة وعليه فإن الاستثمار الصناعي أو التجاري وحتى الزراعي أو الاستثمار في أي قطاع آخر مقيدة بالتوجيه الإسلامي ومن ثمة لا يصلح إنشاء صناعات محرمة أو الاتجار بهما أو زراعة نباتات مضرة بالعقل والصحة (بابلي 1975: 112) فالنشاط الاقتصادي والمعاملات الاقتصادية تحوم في فلك العقيدة، وفي هذا السياق شجع الرسول عليه الصلاة والسلام التجارة وحث عليها شريطة عدم إدخال التجارة الحرام فيها وعدم تجاوز الحدود بقوله "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" ومن أحاديثه الحاثة على امتهان التجارة لقوله "ما من جالب طعاما إلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد :وأضاف: "أن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله"، وهكذا اقتدت الدولة الإسلامية منذ فجرها الأول بهذه التعاليم بحيث تعدى نشاط تجارتها الإطار المحلي إلى العالم الخارجي فسارت قوافلهم في جميع الاتجاهات فكانت هذه الحركة نشطة مزدهرة وهكذا كانت التجارة من أهم السياسات التي تستند إليها الدولة الإسلامية إذ خصصت لها الأطر المناسبة بإنشاء هيئة المحتسبين وعملوا على نشر الأمن ونظموا التجارة وجعلوا لها قوانين محددة.

كما بدأت الدولة الإسلامية تهتم بشق الطرقات التجارية الدولية وذلك باستخدام علامات الطرق وسميت هذه الطرق بالطريق السلطاني والذي أخذه العرب عن مدنية الفرس (إيران) كما أخذوا عنهم هذه التسمية كما شقت الطرقات بآسيا الوسطى في المناطق الجبلية ولقد أولوا عناية كبيرة لحراسة الطرق وتأمينها وإنشاء أماكن الاستراحة يستريح فيها المسافرون، حيث أنشأت القباب وخزانات المياه وذلك بين كل فرسخن أو ثلاثة كما استخدمت الأعمدة التي يهتدي بها المسافرون أيام المطر والزوابع الرملية أو الضباب (متز 1967: 406) وكانت هذه الأماكن التي تبنى في الطرق الصحراوية رباطات للزهاد، ولقد تطورت الدولة الإسلامية في تقديم الخدمة للتجار حيث أسست الفنادق فكانت كثيرة الانتشار بفارس والعراق والشام وحتى في الأراضي المصرية، كما استخدموا العرب الجسور واستخدمت كمعابر على الأنهار، ولتسهيل الحركة بنى المسلمون البريد وكذا محطات سميت السكك وهي متواجدة عبر الطرقات الرابطة بين الأمصار وأهمها البريد الرابط بين بغداد والموصل وكذلك بغداد والشام وبغداد مع همذاز (متز 1967: 412)، وبهذه الوسائل المساعدة التي تمثل اليوم قطاع الخدمات أخذت تجارة المسلمين المكانة الأولى في التجارة العالمية حيث لعبت بغداد والإسكندرية دورا رئيسيا في تحديد الأسعار العالمية لا سيما في البضائع الكماليات والمبادلات التي تتم مقاطعة بروفانس في فرنسا والتي يحتكرها التجار اليهود وقد أطلق عليهم تجار البحر حيث كانوا يجوبون الشرق والغرب وتتمثل بضاعتها في الرقيق والديباج والخزف والغراء ويحملون إلى جدة التي كانت تمثل المعبر الرئيسي نحو الهند والصين، حيث يتم استيراد المسك والعود والكافور، فكانت بذلك دار الإسلام أي بغداد والإسكندرية باعتبارهما نقطة عبور إلى البحر الأحمر مركزين عالميين للتجارة العالمية، إذ بهما يلتقي القادمون من الشرق والغرب وبهما يتم تحديد الأسعار وعرض المنتوجات، وبقد ازدادت هذه المناطق قوة و ****** لا سيما بعد فتح الطريق التجاري إلى بلاد الروس في الشمال الذين حملوا إلى بلاد الإسلام سلعتهم المتنوعة والمتمثلة بجلود الخز وجلود الثعالب السود والأسلحة (أي السيوف والرماح والردوع) وهذا ما يماثل اليوم المتاجرة في الأسلحة والوسائل الدفاعية.

لقد ازدهرت التجارة العالمية بالبلاد الإسلامية بسبب توفر العامل الأمني من ناحية، وبسبب التسهيلات التي تقدمها الدولة للتجار، حيث كانت الرسوم الجمركية غير جائزة في الشريعة الإسلامية، بل كانت تفرض المكوس ذلك لأنها اعتبروا الرسوم الجمركية تندرج ضمن الزكاة فالتاجر المسلم بإمكانه ممارسة نشاطه التجاري حولا كاملا ولا يدفع المكس سوى مرة واحدة، فالمكوس نوع من أنواع الجباية تفرض على المبيعات ويفرض لها قدرا معلوما من الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السلع في أموال المدنية ( ابن خلدون 1986: 280) ولقد ربطها ابن خلدون بتطور الدولة حيث يعتقد بأن الدولة تكون في بدايتها بدوية وهي بذلك قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلا فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها عن حاجاتهم، لكن بمجرد تطورها وارتقائها حضاريا فتجري على أنهج الدول السابقة قبلها فيكثر لذلك عوائدها فتزداد بذلك نفقاتها وبذلك تصبح الجباية عاجزة عن الوفاء بالحاجة، فتسن بذلك الدولة أنواعها للجباية يضر بها وبتجارتها فيدركها بذلك الهرم نظرا لفساد الأسواق واختلال العمران ويقدم بذلك أمثالا من واقع الدولة العباسية والعييدية (ابن خلدون 1989: 281)، وهكذا ففي بداية الدولة الإسلامية فرضت مكوسا على السلع وكان ذلك في مناطق العبور مثل جدة والقلزم (السويس) والبصرة وغيرها من موانئ الدولة الإسلامية ولقد أعطيت مهام للحاسب منها مراقبة وتفتيش التجار الذين يتعاملون مع البلاد غير الإسلامية فيقوم بتفتيش من يمر بهم من تجار، فمن كان معه أسلحة، أخذت منه ورد إلى بلاده وطبق الأمر نفسه على من كان معه الرقيق، أو كتب فتقرأ كتبه فإن كان فيها خبر من أخبار المسامين حول إلى هيئة القضاء ليرى فيه رأيه (متز 1967: 226)، ولقد كان الأمناء يصعدون إلى السفن لتقييد جميع ما جلب فيها مع تثبيت ذلك في سجل رسمي، وذكر اسم المستورد لا سيما المسلمين منهم؛ والغاية من وراء ذلك حملهم على دفع الزكاة (متز 1967: 227)، ولقد اعتبر فقهاء المسلمين بأن كل ما زاد عن الموارد الشرعية ضرائب غير قانونية، ومن ثمة حفظ ثروات الأفراد من الامتصاص عن طريق الضرائب غير المشروعة، ولقد امتاز النظام الإسلامي الأول بعدم سن الضرائب المشروعة، وفي هذا السياق إذا احتاجت الدولة إلى سيولة لدفع استحقاقات مستخدميها لا سيما الجند فإنها تطلب من التجار الميسورين الأموال على أن يكتب لهم بها سفاتج، كما تعرض بعض أملاك الحكومة للبيع (الخطيب 1967: 1982) وهنا يبرز مبدأ الضمان الاجتماعي والذي يقوم على مبدأين، وهما التكافل العام وحق الجماعة في موارد الدولة العامة، إذا أن الدولة ترث من لا وارث له وتمول من لا عليه له، وهكذا لم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرعها لتحقيق التوازن بل جعل الدولة مسؤولة عن الإنفاق العام لهذا الغرض، وهكذا يبرز جليا مبدأ تدخل الدولة، إذ لا يقتصر دورها في مجرد تطبيق الأحكام الشرعية، بل يمتد إلى ملئ الفراغ من التشريع (الصدر 1967: 652) حيث تحول دون تعامل الناس بالربا أو السيطرة على الأرض دون استغلال، وفي ذات الوقت ترعى مصالح الأعوان الاقتصاديين، ومن ثم فإن التدخل لا يعني ممارسة النشاط الاقتصادي، وذلك لأن استحداث التجارة والفلاحة للحكام مضرة بالمواطنين ومفسدة للجباية، حيث يضايقون العامة من أولئك الذين يمارسون النشاط الاقتصادي ومزاحمتهم (ابن خلدون 1989: 281).

مما سبق يتبين لنا دور الذي لعبته الدولة الإسلامية في تطير وتنمية النشاط الاقتصادي لا سيما ما تعلق بالتجارة العالمية، ولقد لعب التجار المسلمون دورهم في نشر رسالة التوحيد لما عرف عليهم من انضباط وسلوك مثالي وهكذا كان إقبال على اعتناق الإسلام من قبل سكان البلاد النائية لا سيما شرق آسيا، بعد أن تأكدوا من سماحته وعدم تمييزه للأجناس والبشر إلا بالتقوى والأخلاق الحسنة وما شجعهم على اعتناقه تقبل الإسلام تأمين حركة نقل العلوم والسهر على ترجمتها، وأمام هذه التحولات والحركة غير العادية التي يشهدها العالم الإسلامي، سعت دولة بيزنطة إلى إعادة النظر في تنظيم شؤونها الداخلية بعد أن تخلت مرغمة على الكثير من المقاطعات بعد أن عانت وطأة الجباية الصارمة من جهة والإرهاصات الدينية من جهة أخرى، كما عانت بيزنطة من أزمة اقتصادية حادة إذ عرفت نقصا في الأراضي الزراعية وبطالة لم تشهد لها مثيلا، ولقد ارتفعت الملكيات الصغيرة من ناحية، ومن ناحية أخرى عرفت بيزنطة حربا اقتصاديا مع الدولة الإسلامية بعد أن قام المسلمون بضرب النقود واحتكار الدولة لمصانع الورق البردي والتدابير الأخرى الخاصة بمناطق العبور والتي اتخذت ضد التجار والعابرين لمناطق العبور الإسلامية (138: 1964 Perroy) وبحكم الموقع الجيو استراتيجي للمسلمين تقلصت تجارتهم مع الهند والصين وقد ساهمت هذه الصراعات في تولد روح التضامن الذي أخذ طابعا دينيا صليبيا وهو يعد بمثابة شكلا من أشكال الوطنية الواعية ومن هنا برز دور الكنيسة في الغرب وساعدت على وضع الحجر الأساسي لإقامة سلطة الباب وحررها من التبعية القسطنطينية وأصبح لها دور حماية دولة الصليبيين وهذا سيكون من أسباب إعادة بناء المدنية في الغرب.

ومن مظاهر الحرب الاقتصادية ضعف الحركة التجارية لدولة بيزنطة للأسباب السالفة الذكر، وبسبب الفتوحات المستمرة للمسلمين، وهكذا تحولت التجارة عن المسالك القديمة إلى مسالك جديدة باتجاه أوروبا الشمالية، وقد أدى ذلك إلى القيام بالإصلاح التدريجي للنقد والعملة وذلك عن طريق صك عملات مماثلة للدينار الذهبي والدرهم الفضي الإسلاميين، كما قاموا فإصلاح النظام المالي الذي كان له أثر إيجابي على تدعيم الحركة التجارية، وبالمقابل عرفت الدولة الإسلامية تفككا نتيجة لحدة الاضطرابات التي مست أركان هذه الأمة، حيث انفصلت الأندلس عن الدولة العباسية كما ستنفصل مصر فيما بعد وتنهج هذا النهج العديد من الأقاليم ومن هنا أطلق على هذه الانقسامات بالانحطاط الذي ضرب أطنابه ربوع الوطن الإسلامي فما هي خصوصيات هذه المرحلة في ظل التجارة العالمية وعلاقاتها مع الأمم المنافسة؟

مرحلة الانحطاط الإسلامية ومعطيات النظم الاقتصادي العالمي:

تميزت مرحلة الانحطاط بالانقسامات التي ضربت جسم الأمة الإسلامية التي اتسمت بوحدتها من قبل وبعالمية دعوتها إلى التوحيد والدور الذي لعبته في وحدة اللغة والثقافة، ويمكن اعتبار مرحلة الانحطاط والانقسامات منذ أن بدأ النزاع على العرش بين الأمويين والعباسين، ولقد إستطاع عبد الرحمان إقامة دولة مستقلة في إسبانيا بعيد عن مركز الدولة العباسية، وعلى نفس المنوال قامت دولة وسقطت أخرى ولقد ربط ابن خلدون ذلك بالعصبية ذلك لأن الدولة لها أعمال طبيعية كالأشخاص لا تتعداها لأن عمر الحادث _ أي الموجود المحدث_ من قوة مزاجه ومزاج الدولة إنما هو العصبية (إبن خلدون 1989: 475 ج2) وهكذا تفرقت دولة الإسلام شيعا وأصبحت دولا بعد أن كانت دولة واحدة وهذا الإختلاف في التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي، وميولهم إلى فنون الملاذ وعوائد الترف والتي هي عين الفساد وبالتالي يتحلون من الحضارة إلى المدينة التي يطبعها الإستهلاك بغير حساب ودون ‘نتاج، مدينة تتسم بالكل عن العمل وعجز في الدفاع عن النفس لإستحكام عوائد الترف فيهم أو لكونهم يترفعون عن ذلك كل لأنهم يعتبرون أنفسهم فوق العامل والعاملين (الجابري 1982: 238).

وهكذا كان الانقسام وتبدد كيان الدولة الواحدة وانصرفت الأقاليم المنفصلة إلى التعصب، وأسست الدول على أساس النعرة ورابطة العصبية وفي هذا السياق لا يقيد ابن خلدون العصبية بالنيب وإنطلاقا من ذلك برزت إلى الوجود دويلات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الفاطميين والأغالبة والأدارسة الدولة المرابطين والإخشيدية وهذا في المغرب العربي أم بالمشرق فقد برزت الدولة الظاهرية والصفارية والدولة الساسانية والغرونية وآل بويه كذلك الحمدانيون والدولة السلجوقية وهي تترجم وهن الدولة الإسلامية ودرجة إنحطاطها.

وهكذا أصبحت هذه الأمة مهددة من الخارج نتيجة إنقسامها، وفي هذا السياق لبست أروبا قناع الصليب فشنت حربا دينية في مظهرها إستعمارية جوهرية على الشرق الإسلامي، كما قام المغول باجتياح هذه الدولة من الشرق مقضوا بذلك نهائيا على الدولة العباسية (الرفاعي 1975: 434) ولقد تمكنت الحملة الصليبية من احتلال أنطاكية وكذلك بيت المقدس ينهبون ويدمرون ولقد أحصي القتلى في الماجد فقط من الأئمة والعلماء المصلين فكانوا سبعين ألف (شلبي 1977: 570)، ولقد سجل التاريخ الحملات الصليبية بسبع حملات حيث جمعت الضرائب بإسم الكنيسة في أواخر القرن 9 م ومن لا يقوى على دفعها يجبر على المشاركة في الحروب وهذا يبرز الصراع المتصل حول النفوذ والسلطة وبين الكنيسة والسلطات المدنية، ولم يكن المعسكر الإسلامي أحسن حالا و حيث قسم صلاح الدين الدولة بين أولاده، إلا ما يهمنا في مرحلة الانحطاط.

لقد كان للتجارة أهمية كبيرة بين المشرق والغرب لدى الموانئ الغربية، ولقد كان دور أروبا الغربية هامشيا بالنسبة للنظام الإقتصادي العالمي ككل وللعالم الإسلامي بصفة خاصة، ذلك لأن الأخير بنى وأقام شبكات -كما ذكرنا- شبمات تجارية واسعة مع المدنيات الأكثر تطورا من الناحية الاقتصادية في جنوب شرق آسيا، ولقد شهد العصر العباسي ترسعا كبيرا في التجارة الداخلية أو بعبارة أخرى داخل منطقة التجارة الحرة الإسلامية الشاسعة، وكذلك في التجارة الخارجية، حيث اعتمدت الدولة الإسلامية على استيراد المواد الأولية أساسا كالخشب والحديد واليد العاملة الرخيصة (إبراهيم 1984: 406) بالإضافة إلى كونها منطقة عبور هامة نحو الشرق الأقصى: إلا أن هذه الأهمية ذهبت أداج الرياح بعد إنقسام العالم الاسلامي والغزوات الغربية والمغولية والتي دامت ثلاثة قرون كاملة منذ القرن الحادي عشرة والتي أسفرت عن تعزيز سيطرة طائفة عسكرية على الحكم، وفي هذه الفترة حدثت تغييرات في طرق التجارة العالمية بعيدا عن الموانئ الإسلامية -التي ذكرناها- مع رسوخ أقدام القوة البحرية الغربية وخطوط لتجارة في شرقي البحر المتوسط وبعد ذلك بقرن تأسست الدولة العثمانية وحملوا معهم التقاليد العسكرية الطائفية المبنية على العصبية حيث قاموا بالتجنيد قسرا وقد ضم الأقاليم التي إنقسمت من قبل وهذا يعد وجه من أوحه الاستعمال والتوسع الروماني، ومن ثمة فإن طبيعة الدولة العثمانية نفسها قد عكست إستقطاب المجتمع وانقسامه انقساما حادا إلى مجموعتين (كاهن 1983: 94).

1-البيروقراطية العسكرية والادارية وهذه تتولى قيادتها الطبقة الحاكمة وحاشيتها، والمؤسسات العسكرية والادارية المركزية في المقاطعات _بما في ذلك مؤسسات جباية ورجال الدين_.
2-كل الرعايا الآخرين والذين يشكلون السواد الأعظم للمجتمع والتي تمثل الطبقات المنتجة.

ويبرز هذا التقسيم الدور الضيق للدولة والمتمثل في تحصيل الظرائب والتي يعد وسيلة تحقيق إثراء شخصي، وهذا ما دفع بالرعاية إلى إهمال وظائفهم فتدهورت بذلك الزراعة والمنشآت وأدى ذلك إلى بؤسهم وشقائهم ولم تبذل أية محاولة لتحسين الظروف الاقتصادية، وفي الوقت نفسه شهدت الخمسون عاما التي بدأت بعام 1499 إكتشاف فاسكودي جاما لرأس الرجاء الصالح وطرق التجارة إلى الهند والشرق الأقصى، وإنشاء لكثير من المراكز التجارية والعسكرية في شرقي إفريقيا، وكانت هذه السنوات ايضا قد شهدت ضم سوريا ومصر من قبل العثمانيين سنة 1517 وامتداد التوسع تجاه المغرب وكذلك العراق وقد قبعت هذه الأقاليم تحت الحكم المستبد، حيث استغلت الأسرة الحاكمة المدن والموانئ التجارية بإعتبارهما المنبع الذي تستمد منه فوائضها ووسيلة للحفاظ على شبكة من العلاقات مع المناطق الداخلية من ناحية وفرض هيمنتها على أهل المدن من ناحية أخرى، ولم تقتص مرحلة الانحطاط على العصور الوطى التي حددناها زمنيا من قبل، بل إستمرت إلى غاية إنهيار الامبراطورية العثمانية وتقسيم الدولة الإسلامية بين الدول الغربية كفرنسا وبريطانيا، فكيف تم ذلك وما هي أهم معالم العصر الحديث؟ وهل يمكن إستخلاص متغيرات الهيمنة من خلال بروز المذاهب الاقتصادية وعلى الخصوص الطبيعيين والتجاريين؟
استنتاجات عامة:
من خلال عرضنا السابق، يتبين لنا بأن للدولة أعمارا كالأعمار البشرية؟ وهكذا امتياز الدولة الإسلامية في نشأتها بخصائص الحضارة المثالية واستمدت قوتها وفعاليتها من التعاليم الإسلامية التي نصت على التكافل والإيثار والمساواة وعدم التفاضل بين الأجناس، فكانت بذلك أمة واحدة موحدة، ثم ما لبثت أن ‘نحرفت عن العمل بالتعاليم السمحة واتخذت من التقدم المادي منهجا للعمل فأضحت بذلك مدنية كغيرها من المدنيات وتسبب هذا الانحراف في بروز العصبية والركون إلى الترف والبذخ وانقسمت الدولة الواحدة إلى دويلات تتآمر وتبرم المعاهدات مع الغرب ضد بعضها البعض، بينما كان الغرب يعمل جاهدا على تنظيم صفوفه وإدارته وكنيسته ويتربص بهذه الأمة المتناحرة من أجل استرداد ماضيه وهكذا كانت الحروب الصليبية السبعة والغزو المغولي شاهدة على ما ألقت إليه العالم الإسلامي.

تكمن قوة الدولة الإسلامية في بداية نشأتها في الخصائص التالية:

1-توحيد المسلمين في دولة مركزية بعد أن حرروا أراضيهم في الشمال الغربي والجنوب الشرقي التي كانت تحت الحكم البيزنطي والفارسي ثم امتد بفتوحات إلى أصقاع الأرض ذلك لأن الإسلام دينا عالميا وشموليا.
2-‘امتازت الدولة الإسلامية الأولى بانعدام الطبقات، فالمؤمنون إخوة، وكذلك بعدم وجود نفاضل الأجناس إذ لا تفاضل إلا بالتقوى والعمل الصالح وهذا ما جعل الفاتحون يدخلون الأقاليم دون قتال أحيانا، ولقد لعب التجار المسلمون خير سفير لرسالة التوحيد ومن ثمة فلا غرابة إن حث الإسلام على امتهان التجارة ومباركتها.
3-اعتمدت الدولة الإسلامية في مواردها على ما سنته الشريعة من زكاة تفرض على المسلمين وجزية يدفعها الذميون مقابل اكتساب حق المواطنة والخراج، وقد كانت هذه الرسوم كلها مستوحاة من القرآن الكريم والسنة النبوية والتي ارتاح لها الناس وراحوا يعتنقون الإسلام لإيمانهم بعدالته، فالدولة الإسلامية تتدخل في الشؤون الاقتصادية –كما رأينا- لكن تدخلا في تسيير دولية وليس احتكار لنشاطات اقتصادية فهي تحمي المنتجين والمستهلكين، ولقد ذهب ابن خلدون إلى حد اعتبار ممارسة النشاط الاقتصادي من طرف الدولة مضر بالرعاية ولقد حمت الدولة حدودها باستخدام نظام المحاسبين الذي يشبه إلى حد كبير نظام الجمارك كما أنشأت الطرقات والبريد فهيأت بذلك ظروف الراحة المساعدة على تنشيط المبادلات التجارية.
وفي هذه الظروف غابت مؤشرات الهيمنة وذلك لانعدام الطابع الاستعماري والاستغلال الذي عاهدناه لدى المدنيات السابقة ومن ثمة نستخلص بأن الجانب الروحي يلعب دورا هاما في بسط العدل وحسن الأخلاق وفي هذا السياق تركت أراضي لأصحابها الذين أسلموا طوعا شريطة إحيائها أما حالة إهمالها ولم يعمرها فإن للحاكم حق الاستيلاء عليها واستثمارها، ولكن هذا لا يراد به أن الأرض المفتوحة عنوة تسلب من مالكيها بل تؤخذ على كل غنيمة ويتحول ما فيها من حق خاص إلى حق عام للأمة بينما الأرض التي عرف المسلمون الصلح من أهمها فإنهم يقدمون الجزية (الصدر 1983: 440).

وتبرز عدالة الدولة الإسلامية الولية أيضا من خلال تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، ذلك لأن الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية يوصفها علاجا موقوتا، أو على أنه تنظيما مرحليا تتجاوزه الأحداث التاريخية إلى شكل أخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها على كونها الرؤية الصالحة لجميع العصور (الصدر 1983: 653).

بعد أن عرضنا خصائص الدولة الإسلامية في مرحلة قوتها، نقدم الآن بعض السمات التي أدت إلى تفكك الدولة الموحدة مركزيا وانقسامها إلى دويلات تغلب عليها مظاهر الانحطاط والانشقاق ونلخصها في العوامل التالية:

1-لضغط الذي مارسه الحكام المستبدون على فئة الفقهاء من خلال إرغامهم على تقديم فتاوى شرعية تصفى الصفة الشرعية على أعمالهم غير الشرعية ونزواتهم ومصالحهم وحروبهم، ونجد في هذا المضمار مسايرة فئة من الفقهاء الذين كيفوا الشرع مع المصالح الخاصة لذوي الأوضاع المتميزة وهذا تسبب في شيوع الفساد في الحياة العامة والخاصة حيث أثر سلبا على تطوير الشريعة وأفرز ذلك صراعا حقيقيا وفتنة لازل العالم الإسلامي يعاني من آثارها إلى اليوم، وهكذا تولدت الفتنة وبرز الصراع جليا, ففي الشرق الأدنى نجد خلافتان تتنازعان السيادة على المسلمين إحداهما فاطمية شيعية وأخرى عباسية خلافتان تتنازعان السيادة على المسلمين إحداهما فاطمية شيعية وأخرى عباسية سنية ولقد اغتنمت الدولة البيزنطية الفرصة وسارعت إلى تغيير موازين القوى من خلال الدسائس الموجهة ضد الأطراف المتنازعة ومؤازرة طرف ضد الآخر واستغلت ذلك استغلال جيدا ففرضت الحصار الاقتصادي وقد اثر ذلك تأثير بليغا على تدفق التجارة بين الشعوب التي كانت تعيش في الدولتين، ونفس الشيء يقال بالنسبة لوحدة الأندلس وظهور المماليك الإسبانية القوية التي ساهمت بقسط كبير في إخراج المسلمين من الأندلس وعلى نفس المنوال انقسم الشمال الإفريقي إلى دويلات وهذا بسبب فساد الأنظمة الحاكمة والتكالب على السلطة، ورغم المحاولات العثمانية لتوحيد هذه الأمة إلا أنها باءت بالفشل رغم الفتوحات التي قامت بها في أوروبا، حيث لم تستطع أن تحتفظ بسيادتها على العالم الإسلامي إلا شكليا في غالبية هذه الأقطار.

2-أفرزت الفوضى السياسية نتائج سلبية انعكست على الجوانب الاقتصادية فمن الناحية الاجتماعية تمثل القبيلة الوحدة الاجتماعية التي قد تكبر بالتحالف أو الحرب حتى تغطي منطقة بأكملها، فمعرفة أساليب الحرب تعد من المؤهلات الضرورية للارتقاء إلى مركز القيادة من القبيلة كذلك اعتماد السواد الأعظم من القبائل على الزراعة وتربية المواشي فهؤلاء البدو لا وطن لهم إذا يعيشون بعيدا عن الحكام ولا يدفعون الضرائب ولا يخضعون للمراقبة (الجابري 1982: 29) فالخضوع للحاكم يكون من طرف الجماعات التابعة له شريطة التمتع بالحكم وعاداته الاقتصادية كالغنائم وغيرها، وهكذا فإن استقرار الحكم مرهون بقدرة الحاكم على المحافظة على الوحدة والانسجام بين القبائل، ومما ساهم في إضعاف المجتمع الإسلامي الحملات المتتالية للمسيحيين و ما كان يصحبه من هجرة لانعدام الأمن ، فالرعية لا تتبع إلا الشوكة، وقد ساهمت هذه الهجرة في فساد العمران، أي الفساد بشقية من حيث صورته ومن حيث مادته.

ولقد ركز ابن خلدون لإبراز ملامح الانحطاط على ظاهرة العصبية التي تعني بالنسبة له القوة الجماعية التي تمنح القدرة على المواجهة، وبعبارة أخرى فإنها تعني المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة، ومن ثم كانت العصبية تظهر الصراع على الحكم، إذ كل قبيلة تسعى لأن لا يكون الحكم في غير نسبهم، فإذا حصل بتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها…… ولقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة، إما بالاستبداد أو المظاهرة حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك (ابن خلدون 1965: 440 ج2) وهذا ما لم نجد أثر له في الدولة الإسلامية الأولى التي وحدها انصهرت فيها كل العصبيات واختفت وهذا للتوازن الذي حققته الحضارة الإسلامية بين شقيها المادي والديني، ومن ثمة تميزت مرحلة الانحطاط بالاستبداد والظلم والتوسع الإقليمي وكلها معالم تأتي تحت طائلة الهيمنة موضوع البحث.
3-امتياز عصر الانحطاط بالتدهور الاقتصادي، حيث تقلص دور الدولة عما كان عليه في الماضي وأصبح ينظر إليه - أي وظيفة الدولة - كمجرد محصل للظرائب وفي هذا السياق يبرز ابن خلدون أثر ذلك على المجتمع فالدولة الإسلامية الأولى كانت قليلة الوزائع كثيرة الجملة بينما في مرحلة الانحطاط تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة ويرجع السبب في ذلك أن الدولة الإسلامية الأولى كانت قائمة على سنن الدين ومن ثمة فإنها لا تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية وأكثر من ذلك فإنها - أي الدولة - تمتاز بالمسامحة والمكرمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس، أما الدولة في مرحلة الانحطاط فقد انغمست في النعيم والترف وتخلقت بخلق التحذلق فزادت حاجاتهم ومن ثمة أكثروا الوظائف والوزائع على الرعايا والفلاحين وسائر أهل المغارم بغية زيادة الجباية وقد وضعوا المكوس على المبيعات في الأبواب وهكذا أثقلوا كاهل الرعية فثبطت بذلك عزائمهم ونفوسهم بقلة نفعهم هذا ما أدى بهم إلى النزوح ومغادرة البلاد وقد أثر ذلك على العمران بسبب الفساد والاستبداد (ابن خلدون 1965: 280 ج2)، ومن مظاهر انحطاط الدولة الإسلامية امتهان الدولة للتجارة ذلك لأنه نوع من أنواع الاحتكار وهي مفسدة للجباية وإضعاف للنشاط الاقتصادي، وبالفعل بآت ذلك واضحا لا سيما بعد 1499 بعد اكتشاف فاسكودي جاما لرأس الرجاء الصالح وتمكن الغربيين من الوصول إلى الشرق الأقصى مرورا بالسواحل الإفريقية التي ساهمت في ازدهار الحركة التجارية العالمية وشكلت سوقا رائجا لأوروبا باستغلالها في المستقبل وذلك خلال نهضتها الصناعية - كما سنرى في المبحث اللاحق -.

وخلاصة القول، فإن النظام الاقتصادي العالمي الذي سيطر عليه المسلمون لمدة قرون بفضل فهمهم الجيد لمقومات الحضارة لا سيما في شقيها الديني ما لبثت أن انتكست بعد أن مالوا إلى الترف والبذخ والتعصب فاختلفوا وبذلك ذهبت ربحهم، وهذا ما سيمكن الغرب من استرداد مدنياتهم التي سلبت منهم لمدة طويلة فما هي مؤشرات الهيمنة للنظام الاقتصادي العالمي خلال هذه المرحلة وما هي أسباب ارتباطه بالعصر الحديث؟ وهذا ما سنحاول معالجته في المبحث الموالي.


الهيمنة من خلال النظام الاقتصادي العالمي للعصر الحديث

مقدمة:
يعد التاريخ الحديث من أهم وأدق أقسام التاريخ فهو فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى التاريخ المعاصر، إذ يمتد من عصر النهضة الأوروبية وانحطاط المسلمين - أي منذ أواخر القرن الخامس عشرة - إلى غاية الثورة الفرنسية وإعادة رسم معالم الحدود الأوروبية واقتسام العالم الإسلامي في مؤتمر فيينا سنة 1815.

وسنركز في هذا المبحث على الفكر المذهبي الجديد والتوسع الاستعماري والتوازن الدولي بين الدول الأوروبية العظمى وما ترتب عن ذلك من صراعات بينها ولقد استطاعت أوروبا أن تسترد مكانتها التي فقدتها خلال القرون الوسطى، من خلال قيامها بإحداث تغيرات هامة في المجتمع الأوروبي ومن أهمها أخذ العلوم عن المسلمين بالاحتكاك مع حضارة الأندلس، حيث نمت الروح النقدية لديهم في أوائل العصر الحديث ونتج عنها حركة الإصلاح الديني البروتستنتي (أبو علية: 1984 : 10) ومن ثمة ظهرت النهضة الأوروبية بعد أن فقدت العصور الوسطى قوة التأثير على المجتمع الأوروبي، فالنهضة تعني في معناها الاصطلاحي التاريخي حركة التجديد والبعث والإحياء للمدنية القديمة، ومن أجل الإلمام بهذه المرحلة التاريخية الهامة فإنه من الأهمية بمكان البحث عن أسباب قيام النهضة الأوروبية والدور الذي لعبته الحضارة الإسلامية فيها وما هي أهم معالمها وخصوصيتها؟ كما يجب البحث في معالم النظام الاقتصادي العالمي الجديد في ظل التغيرات الجديدة لاسيما بروز الثورة الصناعية كعامل من عوامل النهضة الاقتصادية بأوروبا؟ ومن ثمة نتساءل عن الفكر الذي واكب هذه المرحلة وما هي أهم المذاهب الاقتصادية الذي عالجت موضوع الاقتصاد العالمي؟ ومن أجل الإجابة على هذه التساؤلات فإننا اعتمدنا المنهجية التالية:

المطلب الأول: قيام النهضة الأوروبية وخصوصياتها.
المطلب الثاني: النظام الاقتصادي العالمي والتغيرات الجديد.
المطلب الثالث: النهضة الأوروبية في المذاهب الاقتصادية.

قيام النهضة الأوروبية وخصوصيتها
يعتبر عصر النهضة بداية عهد جديد في تاريخ أوروبا، سواد أفكار جديد فتحت أبواب التقدم للأوروبيين، وتقابل كلمة نهضة عبارة "Renaissance" والتي تعني حرفيا البعث الجديد وهو محاولة من الإصلاحيين لإحياء المدنية اليونانية والرومانية، فهي كلمة ذات مدلولات واسعة تضم التغيرات التي طرأت على المجتمع الأوروبي في نظمه الاقتصادي والسياسية والاجتماعية والقانونية والفكرية والثقافية وحتى الفنية، فالنهضة الاقتصادية والسياسية و السياسية والاجتماعية والقانونية والفكرية والثقافية وحتى الفنية، فالنهضة الأوروبية هي شوق وتطلع وهواية وعمل أكثر من كونها مذهبا أو نظاما (أبو علية: 1985: 10) وهكذا تفتحت ونمت في مدر إيطاليا التجارية الكبرى في فرنسا، أين انطلقت حركة النهضة إذ قام بها التجار وأصحاب البنوك، كما بدأت معالمها تظهر في مدينة البندقية وفي العديد من مدن إيطاليا (البرعي: 1982: 100) وهذا يعتبر أمرا لكون إيطاليا تمثل الوسيط التجاري بين الشرق والغرب، إذ حقق التجار الإيطاليون أرباحا طائلة وكونوا ثروات طائلة ضخمة التي لعبت دورا هاما في تكوين الرأسمال التجاري وشجعت ممارسة أعمال البنوك وتجارة الأموال التي انتشرت في المدن الإيطالية وأصبحوا يقدمون القروض بفائدة وقد ساعد على ذلك المذهب البروتستانتي والذي تحول من فكر ديني إلى فكر عصري وأصبح يساير العصر بأفكار علمية وعلمانية حيث اعتقدوا بأن الله سمح للناس بتكوين الثروات واستخدامها في الأغراض التي حددها سبحانه تعالى، وبالتالي يترتب على ذلك وجود فوارق طبقية التي من شأنها إطلاق العنان لكل فرد في العمل على تحقيق ذاته والحصول على ثروة من جراء عمله (البرعي: 1982: 119) وهكذا ظهرت النهضة الصناعية البسيطة وما واكبها من نمو وتقديم في التجارة واتساع المعلومات الجغرافية نتيجة لكسف القارة الجديدة (أمريكا)، ولقد كانت أوروبا خلال هذه الفترة تخضع لعاملين هامين (أبو علية: 1984: 16).

1-سيطرة الكنيسة على الناحية الروحية والثقافية.
2-سيطرة النظام الإقطاعي على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الأوروبي.

ومن أهم العوامل التي ساعدت على قيام النهضة الأوروبية:

1-ظهور المدن الأوروبية:
لقد ارتبطت نشأة المدن بنمو التجارة والصناعة البسيطة وبالتالي سمحت لظهور الوظائف الاقتصادية الأخرى، وبذلك كسب المدينة القوة المادية وأضحت مركز للثقافة والإشعاع الحضاري، وقد واكب ذلك ازدهار في شتى المبادين لما لتلك المدن من أهمية باعتبار أنها أنشأت في بلدان لها تاريخها في حركة التجارة العالمية وقد ساعدها على ذلك موقعها الإستراتيجي، وقد أدى ذلك إلى القيام التنافس بين المدن إذا كانت كل منها تصر على استقلالها عن جيرانها، وهذا ما يفسر انقسام بعض البلدان إلى ولايات شملتها فيما بعد عمليات الوحدة الوطنية.

2-الحضارة الإسلامية وأثارها في قيام النهضة الأوروبية:
بعد أن فشلت في الحروب الصليبية والتي عددها سبع حملات دامت قرنين متتاليين، إلا أنها ربحت الكثير من هذه الحملات نتيجة تعاملها مع الحضارة الإسلامية وقد أثر ذلك إيجابا على شروعه بالقيام في تغييرات جذرية شملت الجانب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري، ومن ثمة كانت النهضة التي أنجبت الرأسمالية كنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي بديلا للنظام الذي ساد في العصور الوسطى والذي يتفق الباحثون على تسميته بأسلوب الإنتاج الإقطاعي.

3-الحركات الدينية المعادية للكنيسة:
عرفت أوروبا حركة دينية إصلاحية قام بها مجموعة من الإصلاحيين المنتمين للكنيسة وكذلك العلمانيين، وهي تمثل حركة تستمد كل أصولها من الحركة العلمية الإسلامية، إذ تعلموا من المسلمين منهج البحث العلمي والذي استمدوه من دينهم، واستغلوا العلوم الجديدة التي أسسها المسلمون كعلم الجبر والخرائط الجغرافية، وهكذا طالبت هذه الحركات بإصلاح الكنيسة وتقليص سلطتها ولقد جاء اختراع الطباعة بالحروف المعدنية على يد جوتنبرج مساهمة في تطوير النهضة وتقديمها، حيث راجت الكتب العلمية وأصبحت في متناول الجميع (أبو علية: 1984: 26).
4- الاكتشافات الجغرافية:
نظرا لمراقبة المسلمين للطرقات الحساسة المؤدية إلى آسيا ، قام الأوروبيون بتشجيع المغامرين في البحث عن الطرق البحرية البديلة التي تربطهم بالهند والصين، ولقد تمكنت من قطف ثمار ذلك باكتشاف أمريكا سنة 1492، وكذلك باكتشاف الطريق المؤدي إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح سنة 1498 ولم تكن لتعطي هذه الكشوفات ثمارها لولا توفر مجموعة من الأسباب التي تراها هامة منها ظهور الدول الأوروبية الحديثة نذكر منها: إسبانيا والبرتغال وإنجلترا وفرنسا وروسيا ثم تليها الدانمارك والسويد فإيطاليا وألمانيا من جهة، والرغبة الملحة لنشر المسيحية ومحاولة محاصرة ديار الإسلام لاسيما في المناطق التي لم تطأها أقدام المسلمين من جهة أخرى، كذلك الرغبة في تحقيق الربح المتأتي من المبادلان التجارية العالمية لاسيما بعد أن سيطر العالم الإسلامي على الطرق التجارية القديمة محاولة منهم للتخلص من الظرائب والرسوم الجمركية التي سبق لنا ذكرها والتي تدفعها سفنهم التجارية وقوافلهم العابرة للأراضي الإسلامية، وباكتشافاتهم يكونوا قد حققوا هدفا مضاعفا والمتمثل في إضعاف الاقتصاد الإسلامي واكتشاف أسواق جديدة لتصريف متوجاتهم الفائضة عن حاجتهم واستيراد المواد الأولية التي تواكب نهضتهم الصناعية.

النظام الاقتصادي العالمي والتغيرات الجديدة للعصر الحديث

لقد قامت الرأسمالية التجارية - كما أسلفنا - على الاعتماد المالي مع بروز النظم التجارية بمختلف أنواعها كالمضاربات المالية وتحويل المدفوعات وكتب الاعتماد، وهو المحور الذي استقطب حوله المعاملات التجارية العالمية وقد برز التطور جليا انطلاقا من القرن السادس عشر، (موسنيه: 1964: 111)، وهكذا عرفت الصادرات تطورا ملحوظا وهذا يعكس بصدق التغيرات الجذرية التي عرفها النظام الاقتصادي العالمي، من خلال امتداد الحركة التجارية إلى العالم الإسباني الذي يهيمن على جزء معتبرا من العالم الجديد، كذلك نفس الشيء يقال بالنسبة للبرتغال وإمداداتها في المحيط الهندي وقد ساعد على هذا التطور التقنيات الجديدة التي أدخلت على النقل البحري، وبذلك نشطت التجارة بين إسبانيا وموانئ أمريكا اللاتينية وفي هذا السياق تراوحت عدد الرحلات بـ 51 رحلة في سنة 1563، ولقد تم تمويل هذه الرحلات من طرف بيوت مالية خاصة حيث تولت هذه المصاريف القيام بعمليات التسليف على المكشوف دون إيداع مستندات تغطية موازية لها.

ونجم عن ذلك زيادة الطلب على المعادن النفيسة والنقد المتداول، وقد أمكن توفير جزء منها عن طريق استثمار معادن أوروبا إلا أنها كانت غير قادرة على تلبية الحاجة، وهذا ما دفع بالدول الأوروبية إلى مساهمة في الاكتشافات في المحيطات الكبرى بحثا عن المعادن الثمينة (موسنيه: 1964: 111)، وقد أصبح المعدن النفيس لاسيما الذهب متوفرا وبكميات ضخمة لاسيما بعد أن ضمت إسبانيا جزر الأنتيل، وازدادت الكميات المستوردة لاسيما بعد غزو المكسيك وضمه وكذلك البيرو واكتشاف مناجم الفضة الغنية في جبال هذا البلد.
إلا أن هذه الكميات الضخمة التي استحوذتما إسبانيا ما لبثت أن أنفقتها لتغطية وارداتها من الحبوب والخمور والمعادن والبارود والمدافع وذلك من فرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا وإنجلترا كما تسببت هذه الثروة في ارتفاع حاد للأسعار وذلك نتيجة لارتفاع الطلب واحتكارات التجار وبسبب الحروب التي عرفتها إيطاليا وفرنسا وهولندا وكذلك ألمانيا من ناحية، والحرب ذد العثمانيين من ناحية أخرى، وهذا لم يمنع تزايد الطلب من كل من إسبانيا والبرتغال على الإنتاج الصناعي والمواد الغذائية من كل أوروبا لتلبية طلبات أقاليمها لما وراء البحار وهذا يعد مساهمة كبيرة في ظهور الرأسمالية الصناعية لاسيما في قطاع النسيج (البطريق: 1971: 121)، وهكذا ساعد ذلك على تضخم المدن وتنوعت أنشطتها، كما أثر على نشاط الفلاحين والمزارعين سكان الأرياف، حيث عرفت إنجلترا مثلا بداية حركة التسييح (Mouvement d'enclosure) في القرن السابع عشر، والتي قام من خلالها كبار الملاك بتوسيع ملكيا تهم العقارية عن طريق ضم الأراضي ذات الاستعمال المشترك وأراضي صغار الملاك من الفلاحين وهذا بهدف توسيع المساحة المزروعة واستخدامها كمراعي واستأجروا صغار الفلاحين وحولوا ملكيا تهم إلى مراعي وذلك استجابة للصناعة الجديدة (دويدار: 1981: 133) وعلى نفس المنوال في فرنسا حيث تمكن تيار ملاك الأراضي من استعاد الأراضي وتحويلها إلى زراعة رأسمالية بنفس الوثيرة التي تمت في إنجلترا وقد تمت هذه التغيرات على يد الملاك العقاريين وكذلك التجار أصحاب الرأسمالية التجاري وذلك بفضل حركة تسليف زراعي نشيط استندت إلى رأس مال كبير لتوسيع المزارع وتجهيزها وصيانة المباني والمخازن.

مما سبق يتبين لنا أن الأمم الأوروبية - لاسيما فرنسا وإنجلترا - قد هيأت أنظمتها وذلك من خلال القضاء على الأساليب القديمة الموروثة من العصور الوسطى والتي يمكن وصفها بالثورة الزراعية حيث حققت النتائج التالية:


1-تحرير اليد العاملة من كل علاقة اجتماعية سابقة وبذلك تم تحويلهم إلى أجزاء.
2-تركزت الملكية بيد قليلة وهي الفئة المالكة لوسائل الإنتاج أي الطبقة الرأسمالية.
3-أن الإنتاج أصبح موجها لدائرة التداول.

ولقد ساهم في إحداث هذه التغيرات الجذرية في مجال الزراعة الاختراعات التي استفادت منها صناعة النسيج والتي ساهمت بقسط وافرا في زيادة الطلب على المواد الأولية، زيادة على أن قيام الثورة الصناعية يتطلب إحداث ثورة زراعية سابقة لها وذلك لما تتطلبه الصناعة من أيدي عاملة.

وأمام هذه التحولات الداخلية، المواكبة للنهضة الأوروبية، برزت معالم النظام الاقتصادي العالمي وذلك منذ 1450-1870، إذ تم تقسيم العالم من طرف الدول الأوروبية المهيمنة عالميا آنذاك وهما البرتغال وإسبانيا على أمريكا كلها عدا البرازيل، ومن خلال هذا التقسيم يمكن القول أن البرتغال كانت تمثل قوة العظمى (Super Power) بدون منازع وذلك لقوتها البحرية والتجارية وقد تميز هذا النظام القديم بإقامة مركز تجارية وتجارة الرقيق، واحتكار وسائل النقل إذ تنتقل البضائع على سفن الدولة الأم وجلب المعدن النفيس لاسيما ومن المكسيك والبيرو - كما ذكرنا - أما الفترة ما بين 1650-1770 فهي تعد بمثابة مرحلة نظام اقتصادي عالمي جديد تهيمن عليه بريطانيا وفرنسا وذلك باعتبارهما كنتا السابقتين في قيام الثورة الصناعية من خلال ظهور المانفكتورات التي واكبت تكون رأس المال التجاري ورأس المال الصناعي أي رؤوس الأموال المستثمرة في القطاع الصناعي والتحولات الزراعية وما واكبها من طرق الاستغلال الرأسمالية بالإضافة إلى بروز الشركات التجارية التي تهيمن على الحركة التجارية العالمية خلال هذه الفترة، إلا أن ذلك ولد صراعا حقيقيا بين فرنسا وبريطانيا، حيث حاربت هذه الأخيرة كل من هولندا وفرنسا وإسبانيا واستطاعت أن تضم المستعمرات التي كانت تابعة لهولندا كما استطاعت أن تضم المستعمرات الفرنسية في أمريكا الشمالية والهند، فالهيمنة البريطانية غايتها تسريع الثورة الصناعية وهذا خلافا للهيمنة البرتغالية والإسبانية التي عملت على جلب المعدن النفيس وخدمة التاج، ولقد استطاعت فرنسا أن تحقق التوازن الدولي من خلال علاقتها بالدول الكبرى الأخرى لاسيما بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، كما أحرزت فرنسا انتصارا على إنجلترا من خلال حرب استقلال الولايات المتحدة الأمريكية (أبو عليه: 1984: 304) لكن خوفا من تضررهما قام الطرفين بعقد صلح إميان 1802 حيث حفظ هذا الصلح لبريطانيا تفوقها البحري في حين بقيت لفرنسا كل مكاسبها، لاسيما رغبة نابليون في الهيمنة على أوروبا إلا أن ذلك لم يتحقق بل فتحت الأقاليم أبوابها أمام البضاعة الإنجليزية دون الإعلان عن ذلك، وقد تبخرت أحلام نابليون بانهزامه أمام بروسيا وسقوطه، ومن ثمة كان التوازن الدولي في صالح بريطانيا لاسيما وأن التطور الصناعي لفترة أطول (البرعي: 1981: 270) ولإبراز قوة بريطانيا موقفها الحازم ضد محاولات السلطان العثماني لاحتواء الثورة اليونانية وهكذا دمرت الأسطول المصري والعثماني والجزائري في موقعه نفارين سنة 1827 وهكذا بعد احتلال مسقط 1798 من طرف بريطانيا، ثم احتلال الجزائر 1830 وعدن 1839 وتوالت سقوط الدول الإسلامية بالاستعمال المباشر أو الحماية وقد تم تقسيم الإمبراطورية العثمانية في مؤتمر فيينا أو ما يسمى بالمسألة الشرقية الأولى، أين تم التقسيم بالتراضي المستعمرات بين الدول الأوروبية وكان نصيب كل دولة كما هو مبين في الجدول التالي.

يتبين لنا من هذا التقييم، انتصار النظام الجديد في القضاء على العقبات التي تقف في وجه نهضة أوروبا وتقديمها برغم الصراعات التي ميزت علاقاتها الداخلية، هذه النهضة التي يجب أن تواكبها حرية التجارة والصناعة، بالاعتماد على الحرية الفردية في الميدان الاقتصادي وعدم تدخل الدولة وهو ما قام بإثرائه الفكر الاقتصادي الذي عاصر هذه المرحلة الهامة والدقيقة في تاريخ أوروبا بل وفي تاريخ البشرية عموما.

فما هي مميزات هذا الفكر وما مقولاته المفسرة لهذا القول؟

النهضة الأوروبية في المذاهب الاقتصادية
لقد ساد الحياة الاقتصادية والنهضة الأوروبية لاسيما في شقها المادي فكرا متميزا اهتم بدراسة التغيرات التي ساهمت في التحول الجذري الذي عرفته المجتمعات الأوروبية، وسعت إلى تفسير هذا الواقع واهتمت بجوانب محددة من ثمة أدرجناها ضمن فكر المذاهب وأبرز المذاهب التي سبقت الفكر التقليدي والذي يمكن اعتباره المدرسة الرائدة في علم الاقتصاد السياسي من خلال مؤلفة أسباب وطبيعة ثروة الأمم لآدم سميث، نجد المذهب التجاري (الماركنتيلي) والمذهب الطبيعي (الفيروقراطي) وسوف نحاول التركيز على هذين المذهبين أما المدارس الاقتصادية فقد خصصنا لها فصلا مستقلا نعالج فيه الأطروحات التي تناولت بالتفصيل التجارة الدولية - ومن ثمة نتساءل عن أهم التغيرات التي أثرى بها أصحاب هذه المذاهب لتجلى الواقع الجديد؟

1- المذهب التجاري والنهضة الأوروبية:

اهتم التجاري بالتجارة الدولية، التي واكبت ازدهار ونمو التجارة البريطانية عبر البحار - كما رأينا - في القرنين 17، 18، ففسر بأن الصادرات تعد مصدرا رئيسيا للثورة، ومن اجل تأمين هذا المصدر والمحافظة عليه، نصح التجاريون الدولة بحماية الميزان التجاري (روبنسون: 1988: 27) ويرجع هذا التصور إلى عملية التعجيل بحركة التنسيج والتي ترتب عليها أن أصبحت الزراعة خاضعة لحاجيات الأسواق الكبيرة ورأس المال التجاري الذي يسيطر على الأسواق وقد ساهم في تجميع رأي المال التجاري النمو المطرد للتجارة الخارجية والتي واكبتها تغييرات في تنظيم الإنتاج التي كانت تتم في المانيفاكتورات وسيطر عليها طبقة المتينة مع المعدن النفيس، فالمذهب التجاري يمكن تصنيفه على أنه مذهب تقدي لاعتقادهم بأن الثورة تتوقف على النقود الممثلة في الذهب والفضة محليا، وتراكمها يعكس الرفاهية والقوة الاقتصادية، فالنشاط الاقتصادي في اعتقادهم يتمثل في جمع المال (1) ولذلك نجدهم جميعا اشتركوا في تقديرهم للنقود واكتساب أكبر قدر ممكن من الذهب والفضة، وفي هذا السياق يعتقد (مالين) بأنه إذا لم توجد نقود، نقصت التجارة رغم وفرة هذا السلع وانخفاض أثمانها أما (دي مونكريتان) الذي ألف أول موسوعة في علم الاقتصاد يعتقد بأن الأمة لا تعيش من التجارة نفسها، وإنما من الذهب والفضة واللذين يتم الحصول عليهما من امتهان التجارة إذا يستجيبان لاحتياجات الأمة وعليه فإنه يعتقد يحتميه جمع النقود إذ بفقدانها تتولد الأمة ومن ثم لابد من البحث عنها في الخارج، هذا ما يفسر التنافس الحاد الذي عرفته البلدان الأوروبية في الاستيلاء واغتصاب الأقاليم (115: 1977 Denis).
لم يهتم التجاريون بوجود النقود بوفرة فحسب، بل اهتموا أيضا بقيمتها، ومن ثمة انصب اهتمامهم على أن تكون لهذه النقود قوة شرائية ثابتة في أكبر دائرة ممكنة، إذ تقدر نقود في ذلك الوقت بمقدار ما تحويه من معدن، وهذا ما جعلهم يعارضون بقوة إجراءات تخفيض كمية المعدن الموجودة في النقود إذ يعتبرونها بمثابة إضعاف للقوة الشرائية، وفي هذا السياق يعتقد بودان Jean Baudin (عام 1568) إلى أن القوة الشرائية للنقود تتناسب عكسيا مع كمية الذهب والفضة الموجودة في بلد ما، هذا الرأي سيمثل بداية الخلاف والجدل العميق الذي أدى إلى ظهور النظرية الكمية للنقود، ومع ذلك أصر التجاريون على أن وفرة النقود تسهل عمليات الاقتراض وتؤدي بالتالي إلى الاستثمار وازدهار المشروعات والأعمال (113 : 1977 Denis).

وعليه فإن توفير أكبر ممكن من المعدن النفيس يتطلب تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لتحقيق هذه الغاية، وعليه فإن تحقيق سياستهم الاقتصادية تحفز الدولة على التوسع الخارجي وضم الأقاليم كما يتطلب تنظيما في الداخل ومن أجل المحافظة على الثروة فإنهم يصرون على تقييد الواردات من الدول الأخرى وذلك عن طريق تقليص الواردات بالتخلي عن استيراد السلع الاستهلاكية والكمالية لأنها تؤدي إلى خروج الأموال من الدولة وهذا ينجم عنه إضعاف الدولة المستوردة وإضعاف اقتصادها، وبالمقابل دعوا إلى تشجيع الصادرات إلى الدول الأجنبية مع حظر خروج الذهب أو حتى إعطاء العملات الأجنبية قيمة أكبر مما تحتويه من معدن وذلك من أجل تحفزها على الدخول، وهذا لا يمكنه أن يتحقق إلا عن طريق التوسع الاستعماري وضم الأقاليم التي تمثل أسواقا جديدة رائجة ولا يخفون هدفهم الأصلي المذكور التي يخفونه تحت ستار الدين وفي هذا السياق نجد (دي مونركبيتان) يقر بأن السياسة التوسعية وضم الأقاليم تهدف إلى التعريف بالله خالقنا إلى الشعوب البربرية التي تعيش بعيدة عن المدينة والتي تمد أيديها لنا لمساعدتها من أجل توجيهها إلى الطريق

(1)- أول المؤلفات في المذهب التجاري كان لـ John Hales من خلال مؤلفه Discours sur la prospérité publique de ce Royaume d'Angleterre، ولكن أشهر التجاريين كان بلا شك لـThomas Munn

الصحيح، وهكذا فإنه وعد من يسعون إلى نشر تعاليمه بالثواب المتمثل فتح الطريق إلى المصادر الواسعة التي تزيد في ثرائهم (60: 1976 : J. Lajugie)، وبذلك يتحقق مبدأ تراكم الثروة لاسيما من عملية التصدير ذلك لأن الأمم لا تنمي ثروتها عن طريق التجارة بل تتحقق من التجارة الخارجية والتي تمثل زيادة صافية في ثروة الأمة.

مما سبق يبرز بأن المذهب التجاري مذهب ذو صبغة وطنية، غذ يأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للأمة بالإضافة إلى كونه مذهبا نقديا ويؤمن بتدخل الدولة في حماية الاقتصاد، وهكذا فإن تطبيقات أفكارهم تختلف من دولة لأخرى وهذا بسبب اختلاف الظروف الاقتصادية، فمثلا في إنجلترا عمد التجاريون إلى مساعدة صناعة التصدير وذلك من خلال خفض الأجور والاعتماد على اليد العاملة الأجنبية، كما فرضت الرسوم الجمركية على الواردات بمعدلات عالية، وفي ذات الوقت خفضت أسعار الفائدة مع إعفاء الصادرات الوطنية من حقوق الجمارك وهكذا تكيف هذا المذهب مع الواقع المعاش لاسيما عصر النهضة الصناعية وراح يفسر الواقع دون العمل على تغييره، فما هي إذن معالم المذهب الطبيعي الذي ساد فرنسا خلال نفس المرحلة وما هي أهم طروحاته؟

2-المذهب الطبيعي والنهضة الأوروبية

يمثل المذهب الطبيعي الاتجاه المضاد للمذهب التجاري، فهما مذهبان متناقضان لا تجمعهما أية صلة، فإن كان المذهب التجاري قد اتسم بالعديد من المفكرين، فإن المذهب الطبيعي قد تجمعوا حول شخصية الدكتور (كينية) الذي آلف مقالات حول المزارعين والحبوب في الموسوعة الاقتصادية (1970 A.Piettre: 61) ولقد نشأ هذا المذهب خلال القرن الثامن عشر في زمن متأخر عن بروز المذهب التجاري، بسبب تدهور القطاع الزراعي بشكل خطير من ناحية، وازدياد القيود المفروضة على التجارة والصناعة لدى الفكر السائد -أي التجاري- كما أسلفنا، وفي هذه المرحلة كانت الدولة تتدخل لتوجيه الزراعة والحد من حرياتهم لاسيما فيما يتعلق بزراعة الحبوب، إذ أقامت الدولة الحواجز الجمركية بين الأقاليم بغية تنظيم تسويق وتجارة الحبوب.


ومن ثمة يمكن اعتبار الطبيعيين سابقون في المطالبة بتطبيق القانون الطبيعي في المجال الاقتصادي في المجال الاقتصادي (12: 1976: J.Lajugie)، فالقانون الطبيعي -أول النظام الطبيعي- يتمثل في كون المجتمعات تتطور وفق قوانين عامة مستوحاة من النظام الطبيعي والخارج عن نطاق البشر ومن ثمة ذهبوا إلى تعريف مذهبهم على أنه علم النظام الطبيعي الذي أعطاه الله للعالم فهو بذلك لا يمكن العدول عنه لأنه مستمد من طبيعة الأشياء وطبيعة الناس وهو تعبير عن إرادة الله (13: 1976: J.Lajugie) ومن ثمة يحددون الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة من ناحية والدور الذي يجب الأفراد القيام به من ناحية أخرى وعليه يقرون بمبدأ عدم تدخل الدولة وهذا عكس قناعة التجاريون، كما اعتقدوا بضرورة إزالة الحواجز والقيود التي تحد من حرية النشاط الاقتصادي وعليه يمكن اعتبارهم السابقون إلى التحريض على حرية العمل وحرية العبور -أي دعه يعمل دعه يمر- وهذا قبل الفكر الكلاسيكي، وبذلك يكونوا قد وضعوا اللبنة الأولى للحرية الاقتصادية.


تختلف نظرة الطبيعيون للثروة عن تلك التي عرف بها المذهب التجاري، فقد ربطوها بالإنتاج، وقد حددوا الإنتاج بالعمل الذي يخلق الناتج الصافي الجديد ومن ثمة فإن ذلك لا يتحقق إلا في الزراعة والعمل الزراعي المنتج بينما تقتصر القطاعات الأخرى على تطوير وتحويل المواد التي كانت موجودة من قبل وقد ذهب البعض إلى اعتبار هذا القطاع بأنه عقيما، إلا أن العقم في نظر الطبيعيين يعني عدم النفع، إذا لابد من وجود مانفكتورات تمون القطاع الزراعي بالمنتجات المانيفاكتورية ( 63: 1970A.Piettre) ولقد بين كينيه ذلك بجدول يمثل الدورة الاقتصادية (أنظر الجدول م.دويدار 1981) وبالعودة إلى تاريخ فرنسا الحديث وبالتحديد في عهد كالون CALONNE خلال الفترة 1786-1787 حيث استلم الوزارة ارتفعت ديون الحكومة إلى أكثر من نصف، مع القيام بإصلاحيات ضريبية لتخفيف العبء الضريبي ويتلخص الإصلاح في النقاط التالية (البطريق 1978: 350).


1-فض الضريبة على الأراضي بدلا من الأشخاص وبذلك شملت الضريبة كل الملاك بغض النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها الملاك، فهي تمثل مصدرا هاما للخزينة وتخفف من العجز.
2-إزالة الحواجز الجمركية الداخلية -أي بين الولايات- وأن تقتصر الرسوم على الواردات، وهذا أدى إلى جعل السوق الفرنسية سوقا وطنية مفتوحة أمام كل المواطنين وهذا يساهم في تنشيط الحركة التجارية.
3-رفع القدرة الشرائية للأفراد عن طريق تخفيض ضريبة الفرد والضريبة على المداخل، وتمهيد الطريق لتوحيد الضرائب على الجميع وبالتساوي بغض النظر عن الفوارق الاجتماعية.
4-إلغاء الضريبة على الإيراد.

لم ترضى هذه الإجراءات، الطبيعيين لأنهم يرون في فرضها إمكانية لنقلها إلى المستهلك عن طريق رفع أثمان استخدام الأراضي الزراعية وكذلك ارتفاع أثمان أدوات ومستلزمات الإنتاج، وهكذا يتحملها المزارع في نهاية المطاف ويؤثر ذلك على الثروة التي تعتمد على المخزون بالإضافة إلى تحسين أساليب الزراعة لزيادة الفائض ولتوسيع الناتج الصافي وبهذا يزداد الطلب على الإنتاج الحرفيين وتزداد ثروة الأمة عموما، إلا أنهم اغلفوا الدور الأساسي الذي تلعبه الزراعة في تطوير الصناعة من خلال الفائض المحقق، وهكذا لم تلغ مقترحاتهم النظام الاجتماعي الذي عاشوا ضمنه والمتمثل في الإقطاعية التي تحول دون النهضة والتقدم وهكذا كان لابد من قيام حركة التسييج ونظام المزارع في فرنسا كشرط رئيسي وأساسي للانطلاقة الفعلية في النهضة التي -كما ذكرنا سابقا- وهكذا كان (لتيرغو) "TUEGOT" (1727-1781) دورا هاما في التحول من المذهب محل الدراسة إلى المدرسة الكلاسيكية بعد أخذ أهم النتائج التي حققها طينيه، وبذلك تحول من التحليل بدلالة التدفقات إلى التحليل باستخدام الأسعار وبذلك يجزأ النظريات التقليدية للقيمة، الأسعار والفائدة، وبذلك يكون قد خطى خطوة إيجابية نحو التحليل الاقتصادي لتفسير الأحداث والوقائع الاقتصادية.
استنتاجات عامة

مثل المذهب التجاري والطبيعي الواقع الذي اكتنف بالمجتمعات الأوروبية خلال الفترة محل الدراسة، وقد عكسا بحق جوهر النهضة التي عاشتها أوروبا مع بداية العصر الحديث، ففرنسا لم تكن لديها مناجم للذهب والفضة لذلك عملوا على المحافظة على ما لديهم من معادن نفيسة وسعوا إلى اكتسابها عن طريق التصنيع وهذا ما سعى إليه (كولبير) والمصنف ضمن المذهب التجاري، حيث قام بمنح بعض الامتيازات كالإعانات والإعفاءات الضريبية للمشروعات التي تنتج سلعا موجهة للتصدير، كما اهتم بتخفيض أسعار المواد الغذائية ومنع تصديرها وذلك من أجل المحافظة على استقرار أجور العمال وفي ذات الوقت فرض رسوما جمركية كبيرة بهدف حماية الصناعات الناشئة شأنه في ذلك شأن الفكر التجاري المنتشر في إسبانيا وإنجلترا، إلا أن هاتين الدولتين تمتعا بمصادر المعدا النفيس وإمكانية جلبها من أقاليمهم المتواجدة وراء البحار.

ومن ثمة فلا غربة أن اقتصر المذهب الطبيعي على تواجده بفرنسا لاسيما بعد أن تدهور القطاع الزراعي وزيادة القيود التي تحول دون تقدمه، وانعكس ذلك سلبا على الاقتصاد الفرنسي، هذا ما جعل الطبيعيين يؤكدون على أن الثروة تتمثل في المنتجات وما يلزم منها لاستمرار الإنتاج في الفترات الإنتاجية المقبلة، وهذا خلافا للمذهب التجاري الذي حصر الثروة في تجميع المعدن النفيس ومن أجل حماية هذه الثروة فإنهم أكدوا على تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتقييد الواردات من ناحية وتشجيع الصادرات من ناحية أخرى وضرورة البحث عن المنافذ من خلال التوسع الاستعماري وهذا خلافا للطبيعيين الذين حرصوا على مبدأ حيادية الدولة وعدم تدخلها في النشاط الاقتصادي وإلغاء الحواجز الجمركية لاسيما بين أقاليم الدولة الواحدة وتخفيف عبء الضريبة، أما التجارة الخارجية فإنها تعد قطاعا عميقا مقارنة بالزراعة، إلا أن هذين الفكريين اتفقا في مبدأ الحرية الفردية ومن أجل تحقيق ذلك فإنه لابد من تذليل كل العقبات التي تحول دون النهضة والتي تمثل هدف هذا الفكر، ولقد فصل(وليام بيتي) بين الفكريين رغم انتمائه للمذهب التجاري وحل الجدال القائم حول الثروة بمقولته الشهيرة: "العمل أب الثروة والأرض أمها"، الأمر يتعلق بالقيمة رغم استعماله للفظ الثروة (دويدارا: 1981: 162)، ومع ذلك فإن هذا الموضوع ليس وليدا عصر النهضة بل هو قديم ويعود إلى عهد الفلسفة اليونانية وهذا ليس بالغريب عن الفكر محل الدراسة لكونه عمل على إعادة بعث المدينة القديمة لاسيما اليونانية والرومانية ورغم تباعدها إلا أن الستار الذي استخدموه لتحقيق ذلك تمثل في الوسع الإقليمي والغزو الاستعماري وهي الصفة التي تجمع بينهما رغم تباعد المراحل ومن ثم فإن التاريخ له طابع دوري كما أسلفنا ذلك.
خلاصة الفصل
لقد علمنا في هذا الفصل على إثبات أن التاريخ ليس مجرد اسطورات تسرد، ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث، ومن هنا جاءت دراستنا لإثبات جملة من الحقائق أهمها: أن لظاهرة الهيمنة جذورها التاريخية وأنها ليست وليدة التاريخ المعاصر، وفي نفس السياق نريد تقييم المادية التاريخية التي دارت حولها جل أبحاث ماركس والماركسيين وفي هذا الإطار نؤكد ما قاله أنجلز وهو أقرب المقربين من ماركس والذي شعر بضعفها حيث يقول بأن الفكرة المادية عن التاريخ ترى بأن عامل في التاريخ هو في النهاية الإنتاج وإعادة الإنتاج في الحياة الواقعية، وما أدعى ماركس ولا ادعي -أي أنجلز- أكثر من هذا، لذا فإن حرف شخص هذا القول إلى الإدعاء بأن العامل الاقتصادي هو وحده المقرر فإنه يحوله إلى كلام لا معنى له ولا علاقة له بالواقع غير المعقول (صديقي 1980: 104) وهكذا فمن غير المعقول بعد عرضنا لتاريخ المدينة الرمانية والحضارة الإسلامية والتاريخية الحديث أن نعتبر العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد الذي يحكم هذه المراحل، ومن هنا قبل الخوض في إبراز معالم النظام الاقتصادي العالمي الخاص بكل مرحلة أن نحدد مفهوم الحضارة والمدينة، وقد توصلنا إلى اعتبار الحضارة ذلك التوازن بين الجانب المادي، أي الاقتصادي والجانب الروحي أي الديني ومن ثمة فإن هذه الأمم حققت تقدما ماديا معتبرا لكنها أخفقت في الجانب الديني وهذا ما جعلنا نصنفها ضمن المدنيات التي لا تختلف عن المدنيات المتقدمة اليوم وقد خصصنا اصطلاح الحضارة للدولة الإسلامية في عهد الفتوحات والتي سعت إلى نقل رسالة التوحيد وكان همها الوحيد تبليغ إلى الأمم القريبة منها والبعيدة، إلا أنها انقسمت إلى دويلات متناحرة تسعى وراء تحقيق الأغراض المادية دون الأغراض الروحية ومن ثمة اختلف التوازن وعبرت إلى الانحطاط ولأقول رغم المحاولات المتكررة للنهوض واسترجاع المبادئ التي جعلت من الدولة الأولى دولة قوية في مبادئها وأهدافها تتسم بالعدل والإيثار والتكافل وتجنب العصبية التي فككت أواصر الوحدة، بعد أن كان التوحيد هو أكبر حركة لتحرير الإنسان في التاريخ وبناءا صالحا يقاوم الظلم والاستبداد والجور وهذا خلافا للمدنيات سوءا الغربية أو الدويلات الإسلامية التي سعت إلى التوسع في الأرض وفي السلطان، وبسط هيمنتها من خلال نهب خيرات المستعمرات وإبقاء علاقة الغالب بالمغلوب أو المركز المهيمن بالمحيط التابع.

إن المتفحص للتاريخ القديم والمتمثل في مدينة روما والتاريخ المعاصر والمتمثل في النهضة الأوروبية، لا يجد اختلافا كبيرا إلا أن القديم امتاز بنظام اقتصادي عالمي ذوي ذو شقين متمايزين:

- الشق الأول: يمثل علاقة المتربول بالأقاليم الخاضعة لحكمه.
- الشق الثاني: علاقة المدينة الرومانية بالمدنيات العظمى في شرق آسيا.

من المخطط السابق تبرز لنا حقيقة النظام الاقتصادي العالمي للعصور القديمة، فهو يمتاز بالازدواجية ولقد عمدنا إلى وضع المدينات في تسلسل منتظم بحيث يعكس هذا التسلسل الموقع الجغرافي فالمدينة الفارسية محاذية للمدينة الرومانية والمدنية الهندية محاذية للمدينة الفارسية أما الصين فإنها تقع شرق الهند وهذا التسلسل نريد من وراءه إبراز الدور الذي لعبته إيران كوسيط للمعاملات التجارية التي كانت تتم بين المدنيات الأخرى -أي الصين والهند- والرومان والعكس بالعكس، وبطيعة الحال لكل مدينة أقاليم ومستعمراتها ونظرا لكوننا قمنا بدراسة المدينة الرومانية فقد وصلنا إلى تحديد مؤشرات الهيمنة التي تبرز خضوع هذه الأقاليم:

1-الضرائب المفروضة على الأقاليم والتي خصص لها إيرادات تقوم بجبيها.
2-تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.
3-جلب البد العاملة للقيام بأعمال السخرة أو تجنيدهم.
4-تموين المركز المهيمن بالحبوب والمواد الغذائية بصفة عامة.

أما المعاملات و التبادلات التجارية مع المدنيات الأخرى فتمثلت في حركة للسلع -التي أوردناها- إذ تصدر الإمبراطورية الرومانية أنواع معينة من السلع المصنعة وتقوم باستيراد الحرير من الصين والتوابل والسلع الكمالية على وجه على وجه التحديد.

بينما العصر الحديث والذي اقترن بعصر النهضة، وهي عبارة مرادفة لمصطلح "Reenaissance" أي البعث الجديد ويقصد بها الأوروبيون إحياء أمجاد المدنيات القديمة وكانت في الواقع تترجم تسمية مطابقة لما سعى إلى تحقيقه الأوروبيون في هذا العصر إلا أنه امتاز بالخصائص التالية:

1-ظهور الدولة المستقلة بأوروبا وهي كيانات قطرية تطمح كل منها إلى الزيادة.
2-اكتشاف طريق الهند الرجاء الصالح وهذا بغية التخلص من القيود المفروضة عليهم من تحكم المسلمين بالمعابر لإستراتيجية والمتمثلين في الإسكندرية وجدة.
3-التوسع الإقليمي لاسيما بعد اكتشاف قارة أمريكا بهدف إيجاد أسواق جديدة تغنيهم عن التعامل مع الدويلات الإسلامية.
4-محاولة إضعاف الدويلات الإسلامية إلى حين تحقيق الشروط الملائمة لضمهم كمستعمرات.
وقد عرف النظام الاقتصادي العالمي في العصر الحديث روادا، بعد أن سيطر على هذا النظام في بداية عهده البرتغال والإسبان لمدة قصيرة انقلبت الكفة لتصبح الزيادة لبريطانيا وفرنسا إلا أن ذلك أفرز صراعا بين هاتين الدولتين لجأتا فيه إلى الحرب، لكن تم حل المعضلة في إطار المسألة الشرقية الأولى أو ما يسمى بمؤتمر (فيينا) أين تم اقتسام العالم لا سيما الإسلامي بين أهم الدول الأوروبية رخيصة للحصول على اليد العاملة والمواد الأولية كما سمحت بتصريف المنتجات المكدسة لدى المركز وفي ذات الوقت استخدمت كقواعد عسكريا استراتيجية، وقد تمت عمليات الضم تحت الغطاء الديني الصليبي، كما أسلفنا ولقد ساير هذا التوجه الفكر الاقتصادي الذي أفرزته النهضة الأوروبية لاسيما الفكر التجاري الذي أصر على ضرورة تدخل الدولة والعمل على جمع المعادن النفيسة وتقييد الصادرات وتشجيع الصادرات.

وهكذا أضحت النية واضحة من وراء التوسع، فإذا كان الرومان قد أثقلوا كاهل المستعمرات بالضرائب وجعلوا منها احتياطا لجلب اليد العاملة فإن الدولة الأوروبية طورت أسلوب تعاملها ولجأت إلى نهب الأقاليم التابعة لها وتجريدها من خيرة شبابها إذا شاعت في هذه المرحلة المتاجرة بالرقيق وبذلك استخدمت هذه المستعمرات بهدف التعجيل بالثورة الصناعية.

أما العصور الوسطى التي تميزت بسيطرة المسلمين على أهم مراحلها فقد امتازت بمرحلتين للدولة الإسلامية، أولاهما عهد الفتوحات ونشر التعاليم الدينية عملا بالنصوص القرآنية، وثانيا مرحلة الانحطاط ويمكن أن نقدم خصوصيات الدولة الإسلامية في عهدها الأول على النحو التالي:

1-توحيد المسلمين في دولة مركزية واحدة لأول مرة في تاريخهم تخضع لحكم مركزي مبني على الشورى، واستلهام قواعد الحكم من نصوص القرآن والسنة.
2-اعتمدت الدولة الإسلامية في عهد ازدهارها على الفطرة الإنسانية في حق التملك فالأموال ينظر إليها في هذا العهد على أنها حق للجميع واستخدامه بهدف الانتفاع وسد الحاجات (رزوق 1982: 62) ومن ثمة كانت الدولة تجمع إيراداتها وفق سنن الدين ولا تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج وجميع المغارم الشرعية.
3-اتسمت الدولة في عهد الفتوحات بشق الطرقات وتوفير سبل الراحة أمام التجارة، وهنا تميز بين التجارة في الرقعة الإسلامية، والتجارة مع أرض الكفر، فما كان مع الأقاليم التابعة للدولة الإسلامية فإنهم يتمتعون بحرية التحول ونقل البضائع مقابل إخراج الزكاة مرة في الحول، أما المبادلات التي تتم مع المدنيات الأخرى تخضع للمراقبة إذا أنشأت لها نقاط تفتيش كما رأينا وتفرض عليهم رسوما تعد بمثابة الرسوم الجمركية تتسم بالعدل والإنصاف واجتناب الظلم وسوء المعاملة وهذا ما جعل التجار المسيحيين يتوافدون على الدولة الإسلامية لما تلقوه من أخبار عن حسن المعاملة والإنصاف وكان البعض يعتنق الإسلام بعد إطلاعه على مبادئه لا سيما ما تعلق بالمساواة بين الأجناس مهما اختلفت ألوانهم ورتبتهم الاجتماعية، كما ‘تسمت الدولة في عهدها الأول بالسماح بمرور البضاعة من وإلى الشرق الأقصى والقادمة من الغرب فكانت الأراضي الإسلامية بمثابة منطقة عبور إلا أنها تغلق خلال قيام المنازعات والحروب لاسيما خلال الحروب الصليبية وهذا ما وما دفع بهؤلاء إلى تعجل اكتشاف الطرق البديلة للوصول إلى الهند وكان لهم ذلك، وبذلك دخلت المدينة الغربية عصر النهضة بينما عرفت الدولة الإسلامية أزمات جعلت بوادر الانحطاط تطغوا ويمكن تحديد مميزات عصر الانحطاط على النحو التالي:

1-انقسام الدول الإسلامية إلى دويلات فبرزت بذلك المنازعات حول الحدود، وأصبحت شروط المواطنة شرطا تحكميا، وهكذا نشأت النزعة الوطنية وغذت بفعل العصبية -كما أسلفنا-
2-المبالغة في الإنفاق من طرف الحكام، وهذا دفعهم إلى سن الضرائب الجديدة وإثقال كاهل الرعية من الفلاحين وسائر أهل المغارم ويسنون المكوس على المبيعات، فتضعف ذلك همة الرعية ويفتر النشاط الاقتصادي فتجمع عن الممارسة وتلجأ إلى الهجرة لانتشار الظلم والاستبداد.
3-انتشار المؤامرات والتحالف مع غير المسلمين من أجل الحكم، وهذا ما يفسر سقوط الأندلس وسقوط العديد من الإمارات العربية، لاسيما الإمارات المحاذية للإمبراطورية البيزنطية ورغم محاولة العثمانيين لتوحيد الدولة الإسلامية إلا أنها باءت بالفشل لاستخدامهم القوة وقتلهم الأنفس، ولاعتمادهم في الحكم على البيروقراطية العسكرية والإدارية التي تقودها الأسرة الحاكمة ومن حولها وغم أنها تمكنت من إخضاع العديد من الأقاليم إلا أنها لم تختلف كثيرا عن التوسع الاستعماري الذي نهجته المدنيات الغربية التي استغلت المستعمرات كمصدر لجبي الضرائب والرقيق خدمة لمصلحة المركز المهيمن، وقد ساعد هذا الانشقاق والضعف في الوقوع هذه الدويلات فريسة سهلة في أيدي الدولة الأوروبية بعد مؤتمر (فيينا) لاسيما وبريطانيا وقد صمت في شكل مستعمرات أو محميات أو انتدابات، وأصبحت بذلك تمثل جزءا من البلدان الاستعمارية الأم، تمثل لها كما ذكرنا سوقا رائجا تمدها باليد العملة الرخيصة وبالمواد الأولية، تمثل سوقا رائجا لتصريف المنتجات، ولقد عبر المذهب التجاري صراحة عن أفكاره المتعلقة بضرورة تدخل الدولة من أجل ضمان مصادر لجلب المعادن النفيسة وهذا خلافا للمذهب الطبيعي الذي وضع اللبنة الأولى للحرية الاقتصادية من خلال المطالبة بشعار (دعه يعمل دعه يمر)، ونظرا لقيام النهضة الصناعية والتحولات الاجتماعية التي شهدتها أوروبا وكذلك السياسة والمتمثلة في القيام بالوحدة مثل: إيطاليا وألمانيا وغيرها، تولد فكر جديد يهتم بالتحليل الاقتصادي، واعتبر بحق ميلاد جديد لفكر خاص بعلم الاقتصادي، لقد اعتبر آدم سميث مؤسسا للمدرسة التقليدية من خلال مؤلفه الشهير "أسباب وطبيعة ثروة الأمم" (صامويلسون: 1993: 282) وقد امتازت المدارس الاقتصادية بدراستها الموضوعية باستخدام التحليل الاقتصادي واتباع المنهج العلمي، ونظرا لكون المشكلة المطروحة واتباع المنهج العلمي، ونظرا لكون المشكلة المطروحة في مجال التجارة الخارجية أصبح محل صراع بين الأوروبية ذاتها وعلى سبيل المثال لا الحصر محاولات نابليون لإخضاع أوروبا ومحاصرة بريطانيا، اهتمت المدارس الاقتصادية بهذا الجانب الهام مركزة على فكرة التخصص وتقسيم العمل الدوليين ومن ثمة فإنه من الأهمية بمكان التطرق إلى هذا الموضوع ومحاولة تحديد معالم النظام الاقتصادي العالمي من خلال هذا الفكر مع المطابقة بالوقائع الاقتصادية والتي ستساعدنا على تحديد ظاهرة الهيمنة وهي الظاهرة موضوع البحث، وهذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه من خلال الفصل القادم الذي يتناول موضوع الهيمنة من خلال أطروحات التجارة الدولية: فما هو محتوى هذه الأطروحات وكيفية تحديد معالم الهيمنة من خلال ذلك؟

إنقر هنا للإطلاع على المزيد ..